عمر نور الدين
ما تحتاجه تركيا اليوم هو عقل واع يفكر بهدوء بعيدا عن انفعالات السياسة اليومية والشجار الحزبي.. تحتاج تركيا إلى رجل بمواصفات خاصة يقود مرحلة ترميم الصدوع والشروخ التي أحدثها الرئيس رجب طيب أردوغان في جسد تركيا كمجتمع وفي حيثيتها كدولة.. فضلا عما ألحقه بحزب العدالة والتنمية الذي ظل على رأس الحكم لمدة 13 عاما منفردا، وهو رقم قياسي كان مرشحا للزيادة لو أن الحزب واصل طريقه كحزب نظيف، ولو أن أردوغان تخلى عن نهمه للسطلة والحكم الفردي ولم يلق بتركيا إلى أتون الاستقطاب المخيف.
هل في تركيا اليوم عقل هادئ يجيد التفكير بعيدا عن الشجار اليومي والمشاحنات السياسية ويعلي من قيمة الديمقراطية وينسى أحلام القوة ومشروع العدالة والتنمية الذي يجب أن يسود من وجهة نظر قادته، ولاسيما أردوغان، وأن يتخلى عن الفكرة التي تقول إن العدالة والتنمية
خسر جولة، أو تعثر في منتصف السباق، لكنه قادر على العودة لينتقم؟
مع شديد الأسف، تعيش تركيا الحالة نفسها التي كانت عليها قبل الانتخابات البرلمانية في السابع من يونيو/ حزيران الجاري، ولم ينجح أي من الأحزاب الأربعة التي فازت في الانتخابات في استخلاص الدروس القوية التي أفرزتها صناديق الاقتراع، وفشل الجميع في قراءة المزاج التصويتي الذي انعكس في إرادة الشعب التركي ورغبته في التخلص من الضجيج وجعجعة النظام الرئاسي وأوهام القوة، ما دفعه للجوء إلى خيار كان يراه مرا من قبل، هو خيار الحكومات الائتلافية، التي حاول أردوغان أن يخيف الشعب التركي منها بالحديث عن الاستقرار، بينما هو يرمي إلى تحقيق مأربه في النظام الرئاسي بالنكهة التركية والصلاحيات المطلقة، ليقول له الشعب لا.
فالأحزاب تواصل الحديث باللغة القديمة نفسها، والعدالة والتنمية ينتهز فرصة قيادته لفترة الفراغ أو الانتظار من أجل السير في الخطط المرسومة من قبل وكأن شيئا لم يتغير، ثلاثة أحزاب بإمكانها أن تكمل ما أراده الشعب هي الشعب الجمهوري، الحركة القومية، الشعوب الديمقراطي الكردي، هذه الأحزاب الثلاثة عليها أن تترجم ما أراده الشعب التركي في صناديق الاقتراع، من تحطيم أوهام القوة والنشوة بالسلطة ووقف أطماع الانفراد بالسلطة ومحو القوانين سيئة السمعة التي أهانت دولة القانون وانتهكت حقوق الجميع، حتى وإن كان الهدف منها الضغط على فئات بعينها في المجتمع، وتحجيم ممارسات العدالة والتنمية ولاسيما الفساد والرشوة والمحسوبية وإشاعة مناخ القمع وترسيخ جمهورية الخوف تحت زعم ” تركيا الجدية”.
لم يع العدالة والتنمية أيضا درس الانتخابات، وواصل حملات الاعتقال في صفوف رجال الشرطة والجمعيات الدينية وتكريم رموز الفساد وعلى رأسهم رجل الأعمال التركي من أصل إيراني رضا ضراب الذي منحوه لقب” بطل التصدير” بينما هو في نظر الشعب بطل الرشوة وعنوان الفساد.
إذن لا يمكن القول حتى الآن إن شيئا ما تغير، وإن الاستمرار في التجاذب حول الحكومة الائتلافية بين الأحزاب قد يؤدي إلى تنفيذ الخطة البديلة التي يرغب أردوغان في تنفيذها ووضع تركيا والشعب التركي أمامها، خطة الانتخابات المبكرة، على الرغم مما قد تحمله من مخاطر على العدالة والتنمية نفسه، لكنه يعمل بلا كلل ولا توقف ولا صمت من أجل اصطياد الفرصة التي فقدها في صناديق السابع من يونيو.
الصورة العامة في تركيا إذن تشير إلى حالة من التعقيد والغموض وتشابك العقد، وهذا يدفعنا للعودة إلى السؤال الذي طرحناه حول العقل الهادئ الذي يمكنه ضبط الأمور، وهنا يقفز إلى الأذهان الرئيس السابق عبد الله جول، فرغم ما يقال عما ارتكب من أخطاء تحت الضغوط التي تعرض لها خلال رئاسته للجمهورية من رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان الذي كان رئيسا للوزاء وكان في أوج قوته، فإنه يظهر الآن على أنه الرجل الضرورة الذي تنشده تركيا للخروج بسلام من حالة التوتر التي قد يسعى أى طرف لافتعالها، سعيا لاقتياد البلاد إلى سيناريو الانتخابات المبكرة.
يظهر جول كرجل هادئ وخبير ودبلوماسي قادر على تقديم الحلول، ويظهر أردوغان الآن ، مضطرا، حتى وإن كان على مضض لاستدعائه بعد أن أقصاه، وربما يطلب منه أن يقود حزب العدالة والتنمية في المرحلة المقبلة لاستعادة ما فقده الحزب بسبب السياسات الخرقاء في العامين الأخيرين، لكن جول لن يعود بلاشروط، ولن يقبل أن يكون رمزا لحزب موصوم بالفساد، أو جسرا تمر عليه أوهام القوة وأحلام السلطة المطلقة، وسيلتقي، ولو جزئيا، مع رغبة أحزاب المعارضة في فتح ملفات الفساد والرشوة من جديد أي أنه لو عاد فستكون عودته هذه المرة بشروطه، وسيكون هو رجل تركيا الأعلى صوتا.. فهل ينجح جول في إصلاح ما أفسده أردوغان، وهل يقبل أردوغان أن يجحم نفسه في إطار صلاحيات الدستور في ظل نظام برلماني اختار الشعب بقاءه؟.. لن نتحدث بالطبع عن موقف رئيس الوزراء رئيس حزب العدالة والتنمية أحمد داوداوغلو، لأن حضوره منذ البداية كان كالغياب.