السياسة تشق طريقها وسط تدافع المصالح وترجع إلى الدين كلما ضاق بها المجال، لكي تبحث عن مبرر لأي سلوك سياسي، لكن إذا رفض الدين منحها ذلك المبرر فقدت اتصالها به فينشأ النزاع.
العربإدريس الكنبوري [نشر في 2015\06\18]
ختمنا مقالنا السابق بالفقرة التالية “والأكثر من ذلك أنه (أي حزب العدالة والتنمية التركي) عرى ورقة الدين التي يستعملها هؤلاء (أي الإسلاميون العرب) ذريعة للوصول إلى السلطة، عندما اندلعت الخصومة بين العدالة والتنمية وحركة فتح الله غولن، التي كان الإسلاميون العرب من المبشرين بها، قبل أن يقرروا قطع الآصرة معها والارتباط بالحزب، أي إحداث القطيعة مع النزعة التربوية والتشبث بالنزعة السلطوية”. واستطرادا، يمكن القول بأن النموذج التركي أثبت استحالة التعايش ما بين الدين والسياسة نظريا، وما بين الدولة والدعوة على مستوى التطبيق العملي.
تعرف الإسلاميون العرب، مبكرا، على تجربة حركة فتح الله غولن التركية، أي قبل ظهور حزب العدالة والتنمية عام 2001، كتنظيم منشق عن حزب الفضيلة؛ وقد حصل ذلك عبر الاطلاع على كتابات بديع الزمان سعيد النورسي، الذي ركز على التربية والتعليم في عملية الإصلاح في تركيا، موليا ظهره إلى السياسة.
وبالرغم من أن هناك في تركيا جماعات أخرى تتبنى فكر النورسي إلى جانب حركة فتح الله غولن، إلا أن هذه الأخيرة استطاعت الانتشار خارج تركيا بفضل المؤسسات التعليمية التي أنشأتها في عدد من البلدان العربية، علاوة على أن غولن لديه العديد من الكتابات الفكرية والتربوية ويمتلك رؤية واضحة في الإصلاح، خلافا لزعماء الجماعات الأخرى الأقل حضورا؛ كما أن الحركة تمتلك العديد من المنشورات الإعلامية والفكرية التي ضمنت لها انتشارا أوسع.
وقد شكلت الحركة واحدا من الروافد الكبرى التي دعمت حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأولى التي حملت الحزب إلى السلطة عام 2002، قبل أن ينقلب عليها في ما بعد، للاستفراد بالحكم؛ ولم يكن ذلك أمرا جديدا في تركيا، إذ أن مختلف الأحزاب ذات المرجعية الدينية التي ظهرت في البلاد في العقود الماضية كانت تستند على أتباع الجماعات الدينية والزوايا الصوفية وتراهن على قوتها الانتخابية، رغم أن هذه الجماعات والزوايا كانت تعيش انقساما في ولاءاتها السياسية، كتقليد دأبت عليه منذ إعلان تركيا الحديثة.
تجاوب الإسلاميون العرب بشكل عام مع فكر حركة غولن، ووجدوا فيه مشروعا تربويا قابلا للأخذ به وتبنيه، خصوصا وأن العديد من الجماعات الإسلامية في العالم العربي كانت تشكو من فقر على صعيد المشروعات التربوية بسبب غلبة السياسة على عملها، وتصفية الأصوات الدعوية بداخلها بعدما أصبح السياسيون وطلاب الحكم هم المسيطرين على مقاليد تلك الجماعات، وهم كانوا يضيقون ذرعا بأصحاب الدعوة؛ هذا إلى أن هؤلاء كان قد تم تدجين العديد منهم، فأصبحوا ملحقين بالسياسيين ويؤدون دور الغطاء الديني للعمل السياسي.
بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم زاد الإقبال على فكر حركة غولن في أوساط الإسلاميين العرب، الذين زاوجوا ما بين الانفتاح على الحزب للاستفادة من تجربته السياسية، والانفتاح على الحركة لتعزيز صورتهم كحركات لا تفرط في الدعوة. وقد تمثل ذلك في عقد العديد من اللقاءات والمؤتمرات التي كان يتم فيها التعريف بفكر غولن ومشروعه التربوي، وتوزيع كتبه وقراءتها، بل ومحاولة تقليدها؛ وكانت الفكرة السائدة أن الحركة هي بمثابة الجناح الدعوي لحزب العدالة والتنمية، وعلى هذا الأساس تصرف الكثير من الإسلاميين.
بيد أن اندلاع الخلاف بين الحركة والحزب في تركيا، في السنوات الأربع الأخيرة على الخصوص، أحدث نوعا من الصدمة لدى الإسلاميين العرب، إذ لم يكونوا يتصورون أن يحصل الصراع بين الطرفين، فوجدوا أنفسهم أمام موقف حرج، سرعان ما كشف استعدادهم لفك الارتباط مع الدعوة والتربية لفائدة السياسة، كما كشف سقوط مقولة “الدولة في خدمة الدعوة”. فقد انتصروا للحزب على حساب الحركة، وتبنوا نفس الخطاب الذي كان ينتجه حزب العدالة والتنمية حول الحركة الذي يتهمها بالتآمر، وأخذوا يعيدون إنتاجه من جديد، بحيث أن الصراع في تركيا تحول إلى شرخ في صفوف الإسلاميين العرب.
التناقض الصريح الذي كشف عنه الخلاف التركي، لدى الإسلاميين العرب، أن مواقف هؤلاء من ذلك الخلاف أظهرت حالة من التيه الفكري؛ فبعد مقولة “الدولة في خدمة الدعوة” أظهرت مواقفهم أنهم يريدون أن تكون الدعوة في خدمة الدولة. لقد كان هدف رجب طيب أردوغان وحزبه دفع حركة فتح الله غولن إلى مساندته دون شروط والسير وفق النهج السياسي الذي اختاره، ومن هنا حصل الانقسام في الحسابات بين الطرفين؛ وقد ظهرت مواقف الإسلاميين العرب وكأنها صدى لهذه الرؤية، التي تجعل السياسة فوق الدعوة والتربية، وترفض أن تخضع السياسة للدين.
إن واحدا من الدروس الهامة التي يمكن استخلاصها من الصراع الذي حصل في تركيا وتردد صداه في أوساط العرب، هو استحالة التعايش الدائم بين الدين والسياسة داخل التيار الإسلامي الواحد. تبدو الفكرة غريبة لأول وهلة، لأن السائد أن التيار الإسلامي هو الذي يمثل نموذج الجمع بين السياسة والدين. لكن بعيدا عن هذه الصورة النمطية التي التصقت بالتيار الإسلامي طيلة العقود الماضية، دعونا نتجاوز القشور.
تجتمع السياسة والدين في التيار الإسلامي حين يكون بعيدا عن الحكم، ثم ينفصلان بعد ذلك. تشق السياسة طريقها وسط تدافع المصالح وترجع إلى الدين كلما ضاق بها المجال، لكي تبحث عن مبرر لأي عمل أو سلوك سياسي، لكن إذا رفض الدين منحها ذلك المبرر فقدت اتصالها به، فينشأ النزاع. وعندما ينشأ النزاع يتهم الدينُ السياسة بأنها أصبحت بلا مبادئ، وتتهم السياسةُ الدين بأنه لا يريد أن يتحرك معها. يتخذ هذا الصراع شكل ثنائيات، كما هو الحال بالنسبة إلى ثنائية الدعوة والدولة، أو الحزب والحركة، أو الجماعة والحزب.
يتحد الاثنان فيما بينهما اتحادا كاملا كلما كان هناك عدو مشترك، كما حصل لجماعة الإخوان المسلمين وحزب العدالة والحرية في مصر، ثم يتصارعان كلما زال العدو المشترك وأصبحا منفردين في مواجهة بعضهما، كما حصل بين جماعة فتح الله غولن وحزب العدالة والتنمية في تركيا.
كاتب مغربي
من صحيفة عرب