علي بولاج
إننا نرى أن مكة قلب كرتنا الأرضية التي تعد خير كوكب للموجودات الحية، والمدينةَ المنورة مركز الحضارة، والقدس مدينة نموذجية لتعايش الأديان والمعتقدات جنبا إلى جنب. وقد حرم الله الحرمين مكة والمدينة المنورة على المشركين والكفار إلى الأبد. في حين أن القدس موطن للأديان الثلاثة، فهي دار السلام. وقد قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) : “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا”.
إن القدس مرتبطة بإسراء الرسول عليه السلام ومعراجه. فليلة الإسراء والمعراج معجزة تختلف عن المعجزات النبوية الأخرى، إذ لم تكن لتحدي الكافرين الجاحدين وإبطال معتقداتهم. بل من أجل إثبات تحديد الفرائض النهائية على المسلمين من ملكوت السماوات. وإذا ما نظرنا إليها على أنها أعقبت عام الحزن لهانت الكروب والشدائد التي مر بها النبي (صلى الله عليه وسلم) في عام الحزن. فلا بد من قدوم الفرج في نهاية المطاف. فحادثة المعراج بشارة للرسول عليه الصلاة والسلام وقد شاهد العالم الآخر من خلال هذه الحادثة.
مرت عبارة “ملكوت السموات” في الآية 75 من سورة الأنعام حيث قال تعالى: “وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ”. وقد أسرى الله بالرسول من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى الملكوت الأعلى وذلك ليشاهد الرسول السنن الإلهية وكيف تتجلى مشيئته وإرادته وعلمه وقدرته في خلقه، وبذلك رفع الله نبيه إلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم واصفا الإسراء والمعراج ما معناه: “ركبت البراق فوصلت إلى بيت المقدس”.
وهذه المعجزة تشير لنا إلى أمر مهم وهو: أن الرحلة من مكة إلى القدس قصيرة والمهم هو العروج من الأرض إلى السماء. فالإنسان يجب ألا يسير أفقيا على الأرض دائما بل عليه أن يعرج عموديا إلى الله أيضا. وبالتالي يعلو مقامه في كل درجة يعرج إليها.
العالم الغربي المتحضر يعتبر التاريخ خطاً يمتد إلى ما لا نهاية، ولكن إذا سرنا في مكان ما من نقطة معينة مسافة 40 ألف كم سنعود إلى المكان الذي انطلقنا منه. إذا فالسير اللانهائي للكوكب وهمي. وإن أردنا تغيير قولنا فعلينا تغيير البُعد. وهذا يتأتى من خلال مسيرة عمودية من الناحيتين الأخلاقية والمعنوية. وحين يتم الإصرار على السير أفقيا لا عموديا فلا يمكن اتباع خط إلى ما لا نهاية. وهذه المرة سيبدأ السقوط من الأعلى إلى الأسفل، وبالتالي لا يمكن أن يسير تاريخ البشرية تصاعديا من الأسفل إلى الأعلى بل سيكون هابطا من الأعلى إلى الأسفل، وحينها يتحقق قوله تعالى “بل هم أضل” وقوله: “أسفل سافلين”.
وإذا أردنا التعبير عن قدسية المدن الثلاث رمزيا، لأمكننا القول إن مكة هي الروح والعقل، والمدينة هي المركز الحضاري الذي أصبح مكانا دينيا تديره الروح والعقل، أما القدس فهي عالم الاحترام منذ القدم وحتى الآخرة. وقد ظلت القدس مكاناً يجمع الأديان في عهود ثلاثة (الأول حين فتحها عمر الذي تعهد للمسيحيين بحماية كنائسهم، والثاني حين حررها صلاح الدين الأيوبي من الصليبيين، والثالث في العصر العثماني حتى الربع الأول من القرن الماضي).
وحين تجولت في شوارع القدس القديمة قلت في نفسي إن القدس بعيدة عن السلام في هذه الأيام، وإن لم يكن مستحيلا جعل القدس مدينة الاحترام المتبادل بين الأديان الثلاثة، فذلك صعب جدا. وثمة طريقان لتحقيق ذلك: إما أن يجتمع أتباع الديانات الثلاث ليتناقشوا فيما بينهم لإعادة تنظيم مدينة الاحترام، أو قيام الاتحاد الإسلامي وتأسيس السلام كما في عهد عمر، وعهد صلاح الدين، والعصر العثماني.
حين تجولت في القدس والمدن الفلسطينية شعرت بحزن عميق لبعد كلا الاحتمالين.