سوجي آكار تشاشما
لم يمر أكثر من 24 ساعة على انتهاء الاقتراع في الانتخابات البرلمانية التركية، حتى غدت المناقشات حول السيناريوهات المتوقعة بعد الانتخابات تفرض نفسها بقوة على الساحة السياسية، وبخاصة بعد الإعلان عن النتائج الأولية. لكن على الأحزاب السياسية والمواطنين أن يحللوا الرسالة التي خرجوا بها من الانتخابات جيدا، قبل الشروع في رسم خارطة الطريق للفترة المقبلة.
هذه ليست المرة الأولى التي تسمعون فيها مني أن الشعب التركي قرر رفع البطاقة الحمراء في وجه طموحات أردوغان للاستمرار في نظام الرجل الواحد؛ لأن هذا هو مفاد رسالة الانتخابات البرلمانية. أو من الممكن أن نعيد صياغة الرسالة بأسلوب آخر يستطيع أردوغان استيعابه: وهو أن أغلبية الإرادة الوطنية قالت للنظام الرئاسي الذي لا يقبل أي رقابة عليه، ولإدارة البلاد القائمة على الأهواء والمزاج الشخصي: “ONE MİNUTE”.
فتراجع الأصوات التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية بنحو 10%، بالمقارنة بالانتخابات الماضية، على الرغم من تسخير رئيس الجمهورية أردوغان ورئيس وزرائه أحمد داوداوغلو كل إمكانيات الدولة في خدمة حزبه، والحملات الدعائية الهائلة، فضلا عن إقحام هيئة الشؤون الدينية في اللعبة السياسية، يحمل الكثير من المعاني والدلالات. وذلك لأن هناك شريحة من الناخبين لا تعرف الأبعاد الحقيقة لقضايا الفساد والرشوة، ولا يعرفون شيئا عن المعتقلين في صفوف الصحفيين، والمحامين، والقضاة، ومنهم من سمع نسخا مشوهة ومزيفة عن تلك الوقائع.
فالنتائج التي خرجت بها الانتخابات، معلنة تحطم آمال حزب العدالة والتنمية في الحصول على 400 مقعد بالبرلمان لتشكيل حكومة بمفرده، كانت بمثابة استفتاء شعبي أعلن خسارة أردوغان. وكذلك خرج داوداوغلو خاسرا، بكلمته التي ألقاها من شرفة حزبه، وكأنه منسلخا عن الواقع والحقائق بطريقة دفعت الكثيرين للسخرية منه، حتى بعض أعضاء حزبه. وفي الحقيقة يعتبر المعلقون الموالون لأردوغان محقون في تفسير سر توجه المجتمع على هذا النحو، على أنه “الفزع من أردوغان”. ولكن ألا يجب عليهم أن يسألوا أنفسهم هذا السؤال؟ ما الذي حدث، ليجعل قطاعا عريضا من المواطنين –لم يكن ليصوت للحزب الكردي قط- يصوت لصالح حزب الشعوب الديمقراطي الكردي نكاية في أردوغان من أجل وقف طموحاته في تأسيس دولة الرجل الواحد؟ فقد أوضح الحزب الكردي، بمنهج واقعي، أنه مدرك لمسؤولية الأصوات الملقاة على عاتقه، وأن المرحلة المقبلة ستكون اختبارا غاية في الأهمية بالنسبة له.
وإن كانت السياسة الكردية مرتبطة بتحركات منظمة حزب العمال الكردستاني، فمن الضروري أن يكون الأكراد داخل البرلمان، وأن يعبر ذلك عن حالة التطبيع داخل المجتمع. ولكن على حزب العدالة والتنمية إعادة قراءة المشهد ومحاولة تفسير الحالة النفسية التي دفعت المواطنين لدرجة شكر حزب الشعوب الديمقراطي على تخطيه الحد الأدنى للتمثيل البرلماني. وإذا وضع المواطنون في اعتبارهم مخاوف عدم الاستقرار المحتملة التي تتجلى في حكومة الأقلية أو حتى الحكومة الائتلافية، وقرروا اللجوء لحكومة الحزب الواحد مرة أخرى، فسيكون من الصعب غض البصر عن حزب العدالة والتنمية الذي بدأ طريقه معتدلا، ثم أنهاه ثملا بقوة السلطة. فبعد اليوم، لا شيء يحول دون اطلاع أعضاء حزب العدالة والتنمية على حالة الانحطاط التي أصابت البلاد، ووقائع الفساد التي أصبحت على مرأى ومسمع من الجميع في أنحاء العالم، وكذلك سياسات أعضاء الحزب الفاسدة من وساطة ومحسوبية وإسراف في أموال الدولة كما يحلو لهم. لذلك فإن كل من شارك في عمليات إلقاء التهم والافتراءات على الآخرين بزعم انتمائهم لــ”الكيان الموازي”، وحتى كل من يختبئون وراء هذا، يتحملون مسؤولية ما حدث في البلاد. وعلى الجانب الآخر يوجد باقي أعضاء حزب العدالة والتنمية الذين لم يشاركوا في دائرة الفساد، والذين بدأوا يفيقون مرة أخرى شيئا فشيئا، نتيجة حملات التشويه والدعاية السوداء. فالتراجع الذي شهدته أصوات حزب العدالة والتنمية هو رد متأخر على عظمة وغرور قصر الرئاسة، ومحاولاتهم لدهس كل من لا يتبعهم.
وأنا، بصفتي مؤمنة بأن الحد الأدنى المرتفع للتمثيل البرلماني يعيق حركة عجلة العدالة داخل البرلمان، وكذلك بصفتي أحد الأشخاص الذي تحدثوا في هذا الصدد قبل أحداث 17 ديسمبر/ كانون الأول 2013 (التحقيقات في وقائع الفساد والرشوة المتورط فيها أردوغان وحكومته)، أرى أن دخول حزب الشعوب الديمقراطي البرلمان إيجابيا. ويا ليت تحالف حزبي السعادة والوحدة الكبرى، المنبثقان من مسار حزب العدالة والتنمية نفسه، قد نجحا في الحصول على حق التمثيل البرلماني… يجب على تركيا أن تتخلص من هذا الشرط الجائر الخاص بالحد الأدنى المرتفع للتمثيل البرلماني، في الانتخابات المقبلة.
وبالرغم من أنني على دراية بأن النواب المستقلين سيحصلون على أصوات منخفضة، إلا أنني أشعر بارتياح للتصويت لصالح يعقوب صايجيلي. فتركيا التي يدخل فيها مهرجو القصر البرلمان، في حين يسجن صايجيلي بسبب قيامه بمهامه، لا تعتبر عادت إلى طبيعتها. فالبرلمان الجديد مدين بالفضل لكل موظف في الدولة قرر آداء مهامه الوظيفية، ولمن كشفوا فضائح الفساد والرشوة في 17 و25 ديسمبر/ كانون الأول 2013. كما يجب التأكيد على ضرورة إعادة فتح التحقيقات الخاصة بقضايا الفساد والرشوة التي قلبت الموازين رأسا على عقب في البلاد. فقد كانت انتخابات 7 يونيو/ حزيران، فرصة ذهبية لكي تتنفس تركيا الصعداء بعد ما لاقته في رحلتها… ها هو الضوء يظهر في نهاية النفق المظلم… وها هي الإرادة الوطنية تعيد ضبط إعدادات التوازن، لتقول كلمتها بأن الخيار الأسوأ (الحكومة الائتلافية) أفضل من خيار الديكتاتورية الجيد.