من جريدة “العرب”
أردوغان لم يواجه الأحزاب السياسية فحسب، وإنما كان هناك خصم آخر ساهم في توجيه الناخبين إلى التصويت ضد العدالة والتنمية. هذا الخصم هو حركة فتح الله غولن.
العربإدريس الكنبوري [نشر في 2015\06\10]
بعد ثلاثة عشرة سنة من الحكم المنفرد في تركيا، ترجّل حزب العدالة والتنمية عن الحصان الأول في السباق، خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة، ليدخل المنافسة حزب صغير لم يكن رجب طيب أردوغان يضعه في الحسبان قبل عام من هذا التاريخ، هو حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، الذي حقق مفاجأة أذهلت الأتراك وقبلهم المراقبون الأجانب، ووجه المفاجأة أنه بينما كان حزب العدالة والتنمية مهتما بخصومه التقليديين الذين طالما لعب معهم لعبة القط والفأر، خرج خصم سياسي جديد لم يكن منتظرا أن يحقق الفوز ليصبح أول حزب ذي لون كردي يدخل البرلمان التركي، في تاريخ تركيا الحديث.
الحديث عن هزيمة انتخابية لحزب أردوغان قد يبدو مبالغة غير مبررة، فما يزال الحزب الأول في قائمة الفائزين؛ ولكن التراجع الذي حصل له في الاقتراع الأخير أمام منافسيه صار اليوم مؤشرا على انحدار سياسي في المستقبل القريب، يقوده إلى الهزيمة.
فطوال السنوات الماضية تمكن الحزب من صوغ خطاب سياسي مليء بالشعور بالتفوق، مع مزيج من السطوة والحكم شبه الانفرادي، في بلد بات ينظر إليه الكثيرون على أنه نموذج للديمقراطية في العالم الإسلامي، قابل للتسويق؛ لكن الواقع أن الحزب تعامل مع المرحلة التي قضاها في السلطة باعتبارها بيعة دائمة من طرف الشعب التركي غير ممكنة الانفكاك، وشرع في التحضير لإدامة أردوغان على كرسي الحكم، مع أن ذلك نقيض المنطق الديمقراطي الذي يجعل واحدة من ميزات الديمقراطية أنها تتعب سريعا من الحاكم فتسعى إلى تغييره.
لكن أردوغان لم يواجه في الانتخابات الأخيرة الأحزاب السياسية المسجلة فحسب، وإنما كان هناك خصم آخر ساهم، بشكل مباشر، في توجيه الناخبين إلى التصويت العقابي ضد حزب العدالة والتنمية. هذا الخصم هو حركة الخدمة الشهيرة، التي يقودها من مقره في الولايات المتحدة الأميركية الشيخ فتح الله غولن، الذي يتبع له الآلاف من الأتراك.
فخلال السنوات القليلة الماضية طفت على السطح أخبار عن مواجهات بين الطرفين، وعن محاولات من طرف الحزب الحاكم خنق الحركة أو حتى “تركيعها”، كما يقول أتباع الحركة الناقمون على سياسة أردوغان. وقد وصلت تلك المواجهات إلى فتح ملفات خطيرة تتعلق بالاختلاسات المالية والتلاعبات السياسية اتهمت بها الحركة الحزب الحاكم، الأمر الذي زاد في سعار هذا الأخير فاندفع إلى إطلاق سلسلة من الإجراءات الصارمة تجاه الحركة والمحسوبين عليها، شملت إغلاق بعض المدارس التابعة لهذه الأخيرة، والتضييق على صحافتها، واعتقال صحفيين.
في خضم هذا الصراع وضع كل طرف روايته. فالحركة تقول إن أردوغان سياسي انتهازي طلع على أكتاف أبنائها، وبعد أن وصل إلى رأس الدولة بدأ في حبك مؤامرة للتخلص منهم، بل إنهم يضيفون بأن الرجل استغل المعلومات التي كانت لديه عن الحركة لكي يحولها إلى ثغرات للإجهاز عليها؛ في حين يقول أردوغان إن الحركة دولة داخل الدولة، وإن زعيمها المسن يريد أن يضع تركيا تحت إبطه، ويربط ازدهار تركيا بالقضاء عليها.
خلال رحلتي إلى تركيا في شهر أبريل الماضي، للمشاركة في عدد من الندوات المتزامنة التي دعيت إليها، لمست لدى بعض المقربين من الشيخ غولن – الذي يسمونه “الأستاذ” – شعورا بأن حزب العدالة والتنمية سوف يمنى بنكسة انتخابية مؤكدة، والسبب أن أردوغان خلال السنة الماضية كثف من خرجاته الإعلامية القوية التي كال فيها الهجوم على الحركة، واعتقل صحفيين معروفين بنزاهتهم، الأمر الذي خلف، لدى الرأي العام، انطباعا سلبيا حول طبيعة تدبير أمور الدولة من طرف الحزب الحاكم. وما زاد الطين بلة أن أردوغان بنى قصرا فاخرا أنفق عليه ملايين الدولارات من خزينة الدولة، كما لو أنه يحضر نفسه لمنصب سلطاني دائم، ويستعد للحصول على لقب “الفاتح”.
أحد المثقفين الأتراك قال لي إن الإسلاميين العرب هم من ساهم في الترويج لصورة الحزب وأردوغان في العالم العربي كبطل إسلامي وخليفة منتظر، وسخر من الذين يعتقدون أن تركيا سوف تعيد الخلافة من جديد مع حزب العدالة والتنمية، وأضاف قائلا “إن الإسلاميين العرب لا يدركون ما نعيشه بسبب هذا الحزب الذي ينتظرون منه أن يأتيهم بالخلافة على وقع معاناتنا”.
لكن أغرب ما سمعته من البعض هناك أن أردوغان بات مستعدا للتضحية بالأتراك، مقابل تمدد إقليمي يجعل منه صنما سياسيا في المنطقة، وأنه ساهم، بشكل مباشر، في تقوية تنظيم داعش في سوريا والعراق من خلال غض الطرف عن المقاتلين الأجانب الذين يتسلّلون عبر التراب التركي للالتحاق بالتنظيم الإرهابي، مقابل الحصول على النفط في السوق السوداء بأثمان بخسة، حتى من دون أن ينعكس ذلك على الوضع الاقتصادي في البلاد.