عبد الحميد بيليجي
زادت الأحداث التي ننعتها بـ”لا يمكن أن تحدث” في الآونة الأخيرة لدرجة أن تركيا وصلت إلى مرحلة حرجة في العديد من المجالات. فعلى سبيل المثال الشخصية التي أعلنت أن تركيا انهارت قانونياً هو البروفيسور أرجون أوزبودون أبرز رجال القانون في البلاد، والذي يعتبر من الشخصيات التي يتفق الجميع في تركيا على خبرته في المجال القانوني وموقفه الديمقراطي. فقد أكّد أن “القانون أفلس وانتهى دوره في تركيا”. فبعد إقدام مجلس القضاء الأعلى على عزل القضاة والمدعين العموم الذين تولوا التحقيق في ملف الفساد والرشوة وحبس القضاة الذين أصدروا حكمًا بإخلاء سبيل مدير مجموعة سامان يولو الإعلامية هدايت كاراجا والمسؤولين الأمنيين، أعلن الحقيقة من خلال هذا التصريح: “مللْت من التعبير عن وجهة نظري بشأن هذه القضية. نشهد كل يوم حدوث أشياء لا يستوعبها العقل. أقول إن هذه هي نهاية القانون في تركيا. ولهذا يكون من المضحك أن أعلق على هذه الأحداث من خلال المواد القانونية التي لا يعمل بها أحد أصلاً”.
لا يختلف الوضع كثيرًا على مستوى السياسة الخارجية كذلك. فقد نظمت المؤسسة الفكرية “مركز السياسات الأوروبية” التي تتخذ من بروكسل مقرًا لها ندوة شاركت فيها، وخلال زيارتي إلى عاصمة الاتحاد الأوروبي رأيت وسمعت ما يثبت أن تركيا وصلت إلى مرحلة حرجة للغاية. فلا داعي لأن تتحدثوا على الضغوط الشديدة التي يتعرض لها الإعلام وعالم الأعمال أو القضاة المسجونون أو الخوف من تأمين أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية المقبلة. فالجميع يعرف كل شيء جيدًا. فبينما كل هذه الحقائق واضحة وضوح الشمس، فإن زيارة المسؤولين الأتراك لبروكسل ومحاولتهم رسم “صورة وردية” خيالية عن الوضع في بلدهم لا يضر بشيء سوى بمصداقيتهم. فالوضع الحالي في تركيا أثبت للجميع أن أنقرة لم تعد تتبع معايير الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالعديد من المجالات مثل الديمقراطية وسيادة القانون وحرية الإعلام.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]لا داعي لأن تتحدثوا على الضغوط الشديدة التي يتعرض لها الإعلام وعالم الأعمال أو القضاة المسجونون أو الخوف من تأمين أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية المقبلة. فالجميع يعرف كل شيء جيدًا. فبينما كل هذه الحقائق واضحة وضوح الشمس، فإن زيارة المسؤولين الأتراك لبروكسل ومحاولتهم رسم “صورة وردية” خيالية عن الوضع في بلدهم لا يضر بشيء سوى بمصداقيتهم.[/box][/one_third]إن تطرق شخصية تولت مناصب رفيعة المستوى وتعرف تركيا جيداً إلى إلقاء هذه المزحة بينما كان يتحدث عن تركيا يظهر بشكل واضح كيف تبدو تركيا من الخارج: “كان جورج دبليو بوش سينافس بيل كلينتون في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فجمع رجاله وسألهم كيف يمكنهم ضمان الفوز في الانتخابات. وبعد أن فحصوا جميع النماذج على مستوى العالم قرروا أن يتخذوا عائلة الأسد في سوريا مثالًا يحتذى، به لا سيما وأنها تحصل على 97% من أصوات الناخبين في كل انتخابات منذ أن تولت حكم سوريا قبل أربعة عقود. فذهب مستشاروه والتقوا نائبي الأسد وحاولوا تعلم فنيات هذا النصر. ثم اتخذوا قرارًا بأن يدير فريق الأسد الدعاية الانتخابية. وعندما أغلقت صناديق الاقتراع أعلنوا النتيجة التي كان ينتظرها بوش على أحر من الجمر: نسبة الأصوات التي حصلنا عليها ممتازة: 97%. لكن هناك شيء غريب، إذ يبدو أن الأسد هو من فاز بالانتخابات!”.
ولو وضعنا فقط ما حدث بشأن واقعة “شاحنات المخابرات التركية” جنبًا إلى جنب لكفى لرؤية الحال المزرية التي آلت تركيا إليها. فعندما أُعلن عن الواقعة للمرة الأولى قال أردوغان “من أعاق الشاحنات التي كانت تنقل مساعدات إنسانية إلى إخواننا التركمان في سوريا؟”. ثم صرح نائب رئيس حزب العدالة والتنمية ياسين أقطاي بأن تلك الشاحنات كانت تنقل سلاحًا إلى الجيش السوري الحر. وبعدها أفاد المتحدث باسم رئيس الجمهورية إبراهيم كالين بأن تركيا لم ترسل أي سلاح إلى أية جماعة في سوريا. وفي نهاية المطاف ظهرت مؤخراً المشاهد التي تظهر الأسلحة التي كانت تنقلها تلك الشاحنات. ففي الوقت الذي سجن فيه المدعون العموم والعسكريون الذين تولوا التحقيق في هذه القضية، فتح تحقيق ضد جريدة جمهوريت التي تناولت الخبر بتهمة “الإرهاب”. ومن الطبيعي أن تكون مهمة القضاء والإعلام هي كشف حقيقة الأعمال الخارجة على القانون. غير أن قيام هذين الجهازين بمهمتهما أصبح جريمة في تركيا.
يعتبر غزو خليج الخنازير الذي قامت به الولايات المتحدة لإسقاط النظام الشيوعي في كوبا أحد النماذج الصادمة التي تشرح دور الإعلام في مواجهة الأعمال الخاطئة التي تقدم عليها الدولة. فالرئيس الأمريكي الأسبق جون كيندي أراد غزو جزيرة كوبا من خلال استغلال ألفي لاجئ كوبي بقيادة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي ايه) عام 1961. لكن كوبا استطاعت صد هذا الهجوم الذي شهد مقتل عشرات الأمريكيين والكوبيين. بيد أن صحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست حصلتا على المعلومات الخاصة بالعملية قبل تنفيذها بيوم واحد، فاتصلت بالإدارة الأمريكية للتأكد من الخبر. فغضب كيندي كثيرًا من الصحفيين واتصل بأصحاب وسائل إعلام ومديري تحريرها وحذرهم قائلًا: “لو نشرتهم أخبارًا حول هذه العملية التي تحمل أهمية كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة قبل تنفيذها وتسببتم في سحق شرف وطننا سأعلنكم خونة للوطن، وأحملكم مسؤولية هذا الفشل، وستحاسبون عن كل قطرة دم تسيل من كل جندي سيموت خلال العملية”.
وعقب هذا التهديد امتنعت الصحيفتان عن طباعة الخبر. ولكن عندما فشلت العملية ألقى كيندي هذا الخطاب التاريخي الذي يتحدث عن أهمية حرية الصحافة: “الولايات المتحدة تتحمل جزءًا من مسؤولية فشل العملية. غير أن الجزء الأكبر تتحمله مؤسستان إعلاميتان كبيرتان. فقد كانتا حصلتا على المعلومات المتعلقة بهذه العملية قبل الإقدام عليها. إلا أننا اعترضنا كإدارة أمريكية على نشر هذا الخبر. فخافوا، وسمعوا كلامنا وتهربوا من المسؤولية وسكتوا. ولو كانوا نهضوا بمهمتهم لكان من الممكن أن نراجع حساباتنا ولا نرتكب خطأ كهذا. فمسؤولية الصحافة تتلخص في تناول ما تراه خطأ دون تأخير أو خوف من أحد وتحذير المسؤولين عن ذلك. فكلتا المؤسستين الإعلاميتين قد ارتكبتا جرمًا لأنهما لم تحذرانا قبل أن نقع في الخطأ!”.