أحمد إينسَل
نعرف أن والد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان رجلًا عصبيًا للغاية، وأنه كان يضرب أبناءه، وذلك مما حكاه أردوغان بنفسه. وبينما كان يقول إنه كان يخشى والده، عرّفه بقوله “الواقع إنه كان رجلًا متجبرًا”، ويقول “عندما تشتمون تدفعون ثمن هذا غاليًا، ولهذا السبب فلقد حاسبَنا والدُنا بين الحين والآخر”. وكان أحد أشكال هذه المحاسبة تعليق طفل يبلغ من العمر 5 إلى 6 أعوام في السقف (من رجليه على الأرجح)!
وتخبرنا السيرة الذاتية وقصة حياة أردوغان أنه كان يقبِّل قدمي والده من أجل تهدئته. أما إحدى النقاط المشتركة التي يتفق عليها أردوغان ومن يعرفونه منذ طفولته أن نوبات الغضب لتي كانت تسيطر على والده كثيرة، وكان – عادة – ما يتعرض لنوبات من الندم عقب نوبات الغضب تلك.
إذن، تعرض أردوغان للعنف داخل أسرته عندما كان صغيرًا، وهو يشرح لنا العنف الذي تعرض له من أساتذته عندما كان يدرس في المرحلة المتوسطة بمدرسة الأئمة والخطباء ويبيت في السكن الطلابي التابع للمدرسة: “عاقب الأستاذ جميع الطلاب بغضن شجرة صفصاف حتى تألمنا كثيرًا، وكنا نضع أقدامنا في المياه للحد من الألم، وكنت أبكي بكاء شديدًا؛ إذ لم أتحمل الألم”.
ربما لا تختلف ذكريات الطفولة التي عاشها أردوغان عن ذكريات الأغلبية الكاسحة من أبناء الشعب التركي. ومن الممكن أن يكون أردوغان قد تعرض لقسوة وعنف أكثر من متوسط العنف الأسري والمدرسي” العادي” الذي تعرضت له الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب التركي خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
لاشك في أنه لا يمكن اختزال أسباب الغضب والحقد المستمرين لأردوغان في العنف الذي تعرض له من والده في طفولته أو من معلميه في المدرسة أو من الدولة عندما سجن ستة أشهر بعد عزله من رئاسة بلدية إسطنبول بسبب قصيدة حماسية ألقاها على أنصاره. غير أنه سيكون من السذاجة أن ننفي بالكلية أن هذا الغضب ليس فقط عبارة عن استعراض لمهارة الخطابة التي يتميز بها، كما ادعى هو بنفسه، وأن نرفض كذلك الفكرة التي تقول إن سبب ذلك ربما يكون غضبًا مكتومًا إزاء العنف الذي تعرض له في طفولته وحقدًا على ممارسي هذا العنف.
حذَّر مجلس أوروبا فرنسا بتاريخ 4/3/2015. وكان هذا التحذير يشير إلى أنه لا يوجد نص صريح في القوانين المرعية بفرنسا يمنع جميع أنواع العنف البدني الموجه إزاء الأطفال، وأن اعتراف القوانين أو الاجتهادات المبنية عليها بـ”حق الإصلاح” للوالدين يخلق غموضًا. وقد علا فورًا صوت أولئك الذين يدعون أن حظر لجوء الوالدين إلى ممارسة العنف البدني الخفيف على أبنائهم في إطار “حق الإصلاح” سيكون تدخلًا في الحياة الخاصة للأشخاص، وأن حظرًا كهذا سيهز سلطة الوالدين بشكل كبير. وهناك نقد أكثر اعتدالاً وموضوعية لهذا التحذير يزعم أنه سيجري التوصل إلى النتيجة المرجوة ليس من خلال حظر هذه الممارسة بل من خلال نظام تعليمي لا يتضمن العنف على الإطلاق وتشجيعِ تطبيق هذا النظام داخل الأسرة كذلك.
هناك أناس يقولون: “هذا ابني ولا يمكن لأحد أن يتدخل في كيفية تربيته”، وهم بهذه الطريقة يكونون قد اعترفوا بأنهم يعتبرون أبناءهم ملكًا خاصًا لهم. وبما أن القوانين تحظر أن يبادر أي شخص بالغ بأن يمارس عنفًا ولو بنسبة ضئيلة ضد طفل ينتسب إلى أسرة أخرى، فهذا يعني أن العنف شيء سيئ في أصله. غير أن مواصلة الوالدين اعتبار أبنائهم ملكًا خاصًا لهم حتى وصولهم إلى سن البلوغ يفتح الباب أمام التغاضي عن العنف داخل الأسرة تحت مسمى “حق الإصلاح”.
وقبل العصر الحديث الذي نعيشه لم يكن الأطفال فقط، بل كانت النساء والخدم والعبيد، هم كذلك داخل إطار حق الملكية هذا. فأصبح من القانوني أن يمارس صاحب هذه الملكية العنف ضد امرأته أو خادمه أو عبده بهدف الإصلاح. لكن تطوّر الديمقراطية ساهم في تراجع هذا “الحق”، ولم يبقَ سوى لجوء الوالدين إلى ممارسة “العنف المحدود بهدف الإصلاح” ضد أبنائهم!
ويذكّرنا ثلاثة خبراء (د. ديلانو، ت. بابو، م-ر. مورو) في مقالهم المنشور بصحيفة Liberation بتاريخ 20/5/2015 بأن نحو 150 دراسة أجريت حول هذا الموضوع إلى اليوم أظهرت أن جميع أنواع العنف التي يتعرض لها الطفل ربما تتسبب بنسبة كبيرة في ارتفاع خطر توليد سلسلة من النتائج الضارة لديه على المديْين القصير والطويل، ويخبروننا بأن المراهقين والبالغين الذين تعرضوا للعنف في طفولتهم لوحظ أنهم يعاملون أقاربهم أو الأشخاص المقربين منهم بشكل سيئ، وكذلك يشهدون اضطرابات عقلية ويعانون من قلق مفرط واكتئاب وإدمان على الكحول، هذا فضلا عن التطوّر المعرفي بشكل أسوأ من أولئك الذين لم يتعرضوا للعنف في طفولتهم. وتظهر هذه الدراسات أن اضطرابات التصرف التي تتسبب بها مستقبلا طرق التعنيف التي تبدو في الظاهر بريئة مثل الصفع على الوجه والضرب على الفخذ لا يجب الاستهانة بها. وتأتي تصرفات مثل العنف الأسري ضد المرأة وإدمان الكحول وأزمات القلق الشديد على رأس هذه الاضطرابات في التصرفات.
يتحدث الباحثون عن النتائج الإيجابية الملاحظة اليوم عقب مرور 15 عامًا على حظر جميع أنواع العنف البدني الممارس على الأطفال في السويد. فقبل كل شيء لم تسجل منذ ذلك التاريخ أية حالة وفاة لطفل بسبب العنف الأسري. كما لوحظ انخفاض كبير في الدعاوى المتعلقة بوقائع العنف الأسري. وشهدت معدلات الشباب المعاقبين بسبب السرقة أو المنتحرين انخفاضًا بنسبة 20%. وتراجعت نسبة الشباب المسجونين بسبب الاغتصاب بنسبة 48%. وبطبيعة الحال لم تهمل الحكومة السويدية كذلك تطوير برامج لدعم الأسرة بعد حظر ممارسة العنف.
أما النتيجة الأبرز في هذه الدراسات فهي أن العنف الذي يتعرض له الأطفال في طفولتهم تسبب في زيادة ميلهم إلى أن يكونوا أصحاب قوة استبدادية عندما يكبرون، كما يعتبر أحد أهم أسباب استمرار العنف الممارس ضد المرأة. وهناك علاقة وثيقة بين الجرائم والعنف الذي يتعرض له الشخص في طفولته. وبكل تأكيد فإنه كلما زادت درجة العنف كبرت أبعاد اضطرابات التصرفات التي تتسبب بها.
والآن يمكن أن نعود للحديث عن السؤال الذي طرحناه في بداية المقال. لو لم يتعرض أردوغان للعنف داخل أسرته ومدرسته عندما كان طفلًا، فهل كان من الممكن أن يكون شخصية تميل بهذا الشكل إلى الاستبداد والغضب والحقد؟ لاريب في أنه ليست هناك إجابة شافية لهذا السؤال. لكن يمكن أن نعرف هذا على الأقل: لو لم يكن قد تعرض للعنف في طفولته لكان من المحتمل بقوة ألا يكون قد امتلك جزءًا من خصائص الشخصية التي يتميز بها اليوم أو لكانت هذه الخصائص قد ظهرت بشكل أقل. لكن حينها هل كان من الممكن أن يكون “رئيسًا”؟!