مراد بارداكجي- موقع خبر تُرك الإخباري
لم تغب فلسطين لحظة عن أذهاننا؛ لكن أنظارنا توجهت مرة أخرى صوب القدس المحتلة، عندما ألقى رئيس هيئة الشؤون الدينية التركية البروفيسور محمد جورماز خطبة الجمعة في المسجد الأقصى، وأمَّ المصلين هناك.
عندها تذكرنا عددا من الوقائع التي شهدتها تلك المنطقة في حقب سالفة، كان أبرزها وقوع القدس فريسة للاحتلال البريطاني في 7 ديسمبر/ كانون الأول 1917 بعد معركة “القدس” التي دارت بين الدولة العثمانية والإمبراطورية البريطانية، بالإضافة إلى دور الجنرال إدموند هنري هاينمان اللنبي في الاستيلاء على فلسطين، والادعاءات المثارة حول وجود كنوز عثمانية دفينة في بلدة جنين الواقعة شمال مدينة القدس.
وبعد الهزيمة التي شهدتها الدولة العثمانية، في أعقاب الحرب العالمية الأولى وانسحابها من فلسطين، بدأت بلدة جنين تُعرف بأسطورة الكنز العثماني المخبأ تحتها. إذ تقول الأسطورة إن القوات العثمانية عزمت على دفن صناديق الذهب في البلدة أثناء مغادرتها، حتى لا تقع في يد الإنجليز.
وعلى الرغم من كل محاولات الباحثين عن الكنز العثماني والذهب التي تتعرض لها البلدة على مدار سنين، إلا أن صناديق الذهب العثماني لم يعثر عليها أحد حتى الآن!
وفيما يلي لمحة من قصة صناديق الذهب العثماني، من جمال باشا أحد زعماء جمعية الاتحاد والترقّي إلى الجنرال الإنجليزي إدموند اللنبي، مرورا بالبارون الألماني النازي، حتى المنقبين والباحثين الأردنيين:
بكى لمدة ساعتين
كانت بلدة جنين الفلسطينية، في ذلك الوقت تابعة للواء “بالقا” في ولاية بيروت العثمانية. وكان العمداء والولاة يرسلون إليها من إسطنبول مباشرة.
في 9 ديسمبر/ كانون الأول 1917، غادرت القوات العثمانية مدينة القدس، وتركتها لقوات الإنجليز بقيادة الجنرال إدموند اللنبي. كان هذا نتيجة طبيعية للخسارة التي تعرضت لها القوات العثمانية، التي كانت تتقهقر إلى الوراء كلما تقدمت القوات الإنجليزية نحو البلدات الواقعة في الشمال. في البداية نقِل المقر العام للقيادة إلى مدينة نابلس، ومنها إلى مدينة الناصره بعد اقتراب الإنجليز.
وفي 12 ديسمبر/ كانون الأول قرر جمال باشا قائد القوات العثمانية في فلسطين السفر إلى إسطنبول، مانحا الفريق الألماني إريش فون فالكنهاين كل صلاحياته.
وتُشير الروايات إلى أن جمال باشا أجهش بالبكاء لمدة ساعتين متواصلتين بعد تحرك القطار من المحطة ومغادرته البلدة…
بدأت حكايات وأساطير صناديق الذهب تظهر أثناء انسحاب القوات العثمانية من المنطقة: كانت يد الإنجليز سخية في منح قبائل وشيوخ العرب الذهب أثناء الحرب. ولعب ذلك دورا كبيرا في وقوف بعض العرب في وجه الدولة العثمانية وإعلانهم الجهاد ضدها.
في البداية حاول جمال باشا أن ينفذ الحيلة نفسها لكسب ود بعض القبائل العربية، إلا أن الخزانة العثمانية كانت خاوية على عروشها، فلجأت الدولة العثمانية إلى استقدام صناديق الذهب من حليفتها ألمانيا.
كانت الصناديق قادمة من برلين مباشرة إلى القدس، وكانت المبالغ من الذهب توزع على القبائل العربية بمعرفة الضباط الألمان، إلا قلة قلية كان يسمح بتوزيعها بمعرفة المسؤولين العثمانيين.
وتعرضت القوات العثمانية لهزيمة كبيرة دفعتها لنقل مقر قيادتها إلى مكان أبعد نحو الشمال. وهنا أمرَ الجنرال الألماني ليمان فون ساندرز بنقل صناديق الذهب إلى مقر القيادة الموجود ببلدة الناصره، بواسطة البغال في حماية الضباط الأتراك والألمان.
دفن صناديق الذهب حتى لا تصل إليها أيدي الإنجليز
التقت القوافل التي تحمل الصناديق في منطقة خارج حدود مدينة جنين، فقد كان من المقرر أن يلتقوا ليذهبوا معا إلى بلدة الناصره… إلا أن القوات الإنجليزية قطعت الطريق أمامهم. وشهدت المنطقة صراعات ومشادات بين الطرفين… وعندما أدرك الجنود أنهم لن يتمكنوا من الوصول إلى بلدة الناصره بالصناديق، قرروا دفن الصناديق في الأرض حتى لا يتمكن الإنجليز من الاستيلاء عليها.
حفر الجنود خندقا عميقا ودفنوا صاديق الذهب فيه، ورسموا خريطة المكان بشكل “كروكي” سريع، وأكملوا طريقهم إلى بلدة الناصره وسط صدامات مع القوات الإنجليزية التي كانت تلاحقهم. ومات منهم من مات، ومن بقي على قيد الحياة تمكن من الوصول إلى مقر القيادة العامة في الناصره.
وبعد بضعة أيام، تعرضت القوات العثمانية لهزيمة أخرى. وانتهت بهذا سيطرة الدولة العثمانية في الشرق الأوسط التي استمرت لأربعة قرون متتالية. وتراجعت القوات العثمانية شيئا فشيئا، حتى وصلت إلى سوريا، ثم إلى سلسلة جبال طوروس.
مرت السنون، ومات من مات، وتحولت صناديق الذهب إلى أسطورة وحكايات. وأصبحت صناديق الذهب العثمانية المخبأة محط أنظار كل قاصٍ ودانٍ. وقضى الكثيرون سنين من أعمارهم بحثا عن الكنز المفقود…
تجري أعمال البحث عن صناديق الذهب منذ سنين، لكن لم يعثر أحد على أي منها
لم يترك أهالي بلدة جنين شبرا إلا وبحثوا فيه عن الذهب. وفي عام 1953 أقامت الأمم المتحدة مخيما للفلسطينين خارج البلدة بعد اندلاع اشتباكات بينهم وبين إسرائيليين. وتوسع المعسكر يوما بعد يوم حتى ضم أجزاء من البلدة نفسها، وبدأ اللاجؤون أيضًا بالبحث عن الذهب.
وصل الأمر إلى أن كل من لديه خريطة يزعم أنها لمكان الكنز، ومنهم من يبيعها للأجانب مقابل مبالغ طائلة. وبدأت المنطقة تشهد أعمال حفر وتنقيب من قبل الأجانب والمحليين وحتى الأردنيين الذين يعبرون الحدود بطرق غير مشروعة؛ ومن يلقى القبض عليه منهم كان يتم ترحيله خارج البلاد، من قبل الشرطة الإسرائيلية.
وعلى الرغم من أن كل محاولات العثور على الكنز المفقود باءت بالفشل الذريع طوال السنوات الماضية، إلا أن أسطورة صناديق ذهب جمال باشا لا تزال تحتفظ ببريقها ولمعانها في ذاكرة أهالي البلدة…