عمر نور الدين
يفوح الكذب من أركان تركيا الجديدة التي يروج لتأسيسها الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس وزرائه أحمد داود أوغلو ورموز حزب العدالة والتنمية الحاكم.. ولأن الكذب لا يدوم فقد ظهرت التناقضات. ومع ذلك فإن من يكذب يصر على الاستمرار في الكذب.. لأن المقصود هو غسل عقول الشعب التركي.
انتشرت هذه الرائحة المزعجة مرة أخرى في التجاذب الذي عايشه الشعب التركي على مدى أيام بين رئيس الوزراء أحمد داودأوغلو والرئيس السابق عبد الله جول، الذي كشف في الفترة الأخيرة عن مواقف تبدو للمتابعين والمحللين تعبيرا عن سخط على السياسات المتبعة من جانب أردوغان والتي يسير عليها رئيس الوزراء داود أوغلو كونه أصبح، واقعيا، مجرد ظل لأردوغان.
وقبل أن نخوض في هذا التجاذب الذي كان محوره زيارة قام بها داود أوغلو عندما كان وزيرا للخارجية هو وأفراد عائلته إلى المفكر الإسلامي التركي فتح الله كولن في مقر إقامته خارج تركيا بولاية بنسلفانيا الأمريكية عام 2013، وقت أن كان جول رئيسا للجمهورية، وقيل إن السبب كانت دعوة الأستاذ كولن للعودة إلى وطنه بعد أن زالت الوصاية العسكرية التي كانت سببا في رحيله، نشير سريعا إلى أن جول كان صاحب الفضل في تقديم داود أوغلو إلى عالم السياسة والدفع به إلى منصب وزير الخارجية، حتى وإن بدا أن داود أوغلو لا يحفظ من هذا الفضل شيئا.
قال داودأوغلو إن الزيارة كانت بعلم جول وموافقته وأنه كان في ذلك الوقت يرافق جول في زيارة لنيويورك وأبلغه بأنه سيتوجه إلى بنسلفانيا لزيارة الأستاذ كولن، وبعد هذا التصريح قال جول إنه علم فعلا بهذه الزيارة لكنه علم بها لاحقا ولم يبلغه أحد بها قبل القيام بها.
في هذا الوقت كان الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان رئيسا للوزراء، وبالطبع أحيط علما بالزيارة ووافق عليها، وهذا أمر مهم لأننا سنعود إليه يعد أن نستكمل الجدل الذي اشعله مع دواد أوغلو مع جول بشأن هذه الزيارة.
بعد أن قال جول إنه لم يعلم بالزيارة إلا لاحقا، لم يترك داود أوغلو الأمر، لكنه رد عليه وقال إن ذهني صاف وأنا أتذكر جيدا أنني أبلغت جول بالزيارة قبل التوجه إلى بنسلفانيا، ليرد عليه جول مؤكدا أن ذهنه هو الآخر صاف وأن أحدا لم يبلغه بهذه الزيارة وأن هناك أمورا كثيرة كانت تحدث ولا يبلغ بها من جانب الحكومة.
من الصادق، ومن الكاذب هنا؟
بلا أدنى تردد، أميل إلى تصديق رواية جول.. لماذا؟.. لأن حجم ما تكشف في الأشهر الأخيرة قبل انتهاء الفترة الرئاسية لجول أظهر أنه كان يتم إبعاده بواسطة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان عن الكثير من الأمور استغلالا لوضعية رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية في الدستور التركي، التي انقلب عليها أردوغان نفسه بعد أن صار رئيسا للجمهورية.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ] إذا أردنا الحديث عن الكذب كأساس لتركيا الجديدة فلن نستطيع أن نحصى مظاهر هذا الكذب، لكن الواقع المرير الذي أفرزه هذا النهج هو أن من يدعون أنهم مسلمون بحق هم الذين يسيئون إلى تجربة الحكم الإسلامي باتباع أساليب السياسة الرخيصة وتوظيف الدين من أجل التغطية على الفساد والرشوة والسرقة والتدهو الاقتصادي وانعدام القانون وغياب العدالة.[/box][/one_third]وقد قال جول بنفسه إنه كانت هناك أمور كثيرة لايعلم بها أثناء رئاسته للجمهورية، وهو محق، بالإضافة إلى أن الرجل اختار أن يبتعد عن السياسة والانغماس فيها بعد أن ترك منصبه وانتهت فترة رئاسته للبلاد، وفي الوقت نفسه يسعى لأن يحافظ على ألا يكون عاملا سلبيا ضد حزب العدالة والتنمية الذي أسسه والذي يعز عليه أن يراه مهزوما، لكنه كدبلوماسي وسياسي شريف لايتردد في انتقاد مايراه خاطئا مثلما تبين في قوله إن النظام الرئاسي (الذي يقاتل أردوغان من أجله) لايناسب تركيا.
هناك أمر آخر، يكشف سلامة موقف جول ويعري سوء القصد من وراء الزيارة نفسها، ذلك أن حكومة العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان كانت قد بدأت تحركاتها ضد حركة الخدمة والأستاذ كولن منذ فترة مبكرة، تعود إلى العام 2004، عن طريق محاولات إدراجها في” الكتاب الأحمر” سيئ السمعة، وهو ما يكشف عن أن دعوة كولن للعودة إلى وطنه لم تكن إلا مجرد فخ للإيقاع به واستدراجه، وبعدها تبدأ الحملة ضده التي كانت، في ظل ما تشهده البلاد الآن، ستنتهي حتما بسجنه أو وضعه قيد الإقامة الجبرية.
والدليل على سوء النية من جانب الحكومة، أنه وبعد أن خابت مساعيها المتكررة مع كولن بمحاولة الإقناع ، تارة، ومحاولة طلب تسليمه من الولايات المتحدة، تارة أخرى، أو محاولة نقله إلى إحدى الدول الإسلامية الكبيرة بالمنطقة، تارة ثالثة، بدأ داودأوغلو يطلق أكاذيبه ليقول إن كولن أراد أن يعود إلى تركيا كما عاد الخوميني إلى إيران أي أن يكون مرشدا أعلى للدولة.
نعود الآن إلى أردوغان.. لماذا صمت إزاء هذا الجدل الذي يدور بين داودأوغلو والرئيس السابق عبد الله جول؟.. الإجابة ببساطة لأن زيارة داود أوغلو وخطتها وما كان وراءها من أهداف، كل ذلك كان بعلم وتوجيه أردوغان كونه رئيس الوزراء الذي يتبعه وزير الخارجية مباشرة.
أردت من هذا الملمح حول طبيعة الأكاذيب” المركبة” التي تروجها حكومة العدالة والتنمية والتي تعتمدها كأسلوب في الفوز بالانتخابات، أن ألفت النظر إلى الأسس التي يتم بناء” تركيا الجديدة”، التي هي شعار الحزب في الانتخابات البرلمانية التي ستجرى بعد أقل من شهر من الآن، عليها.
الكذب هو آلية جيدة لإضعاف الخصوم أو لإلهائهم وشغلهم بالرد على الافتراءات، مثلما فعل الإعلام الموالي لأردوغان وحكومة العدالة والتنمية مؤخرا مع الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو، المرشح السابق لرئاسة الجمهورية مرشح حزب الحركة القومية عن مدينة إسطنبول في الانتخابات المقبلة، إذ كان في زيارة لمصر لحضور الاجتماع السنوي السادس عشر لمجلس أمناء مكتبة الإسكندرية الذي ركز على محور تأسيس” حركة فكرية تنويرية شاملة تواجه الفكر المغلوط وتدحض قيم العنف والارهاب” بحضور شخصيات دولية بارزة في مجال الفكر والسياسة، فركزت الصحف الموالية لأردوغان والعدالة والتنمية على صورة جماعية للمشاركين في الاجتماع مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لتروج افتراءات عن إحسان أوغلو وتقول إنه عقد على هامش الاجتماع الرسمي اجتماعا سريا مع أحد كبار المسؤولين بالمخابرات الأمريكية بحضور رئيس المخابرات المصرية، حتى توحي بأن هناك مؤامرة يتم تدبيرها ضد تركيا بمشاركة إحسان أوغلو وحزب الحركة القومية ، الذي تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى زيادة شعبيته قبل الانتخابات مقابل تراجع شعبية العدالة والتنمية .
ولا يتوقف الأمر عند أركان تركيا الجديدة في سعيهم لتأسيس جمهورية الكذب في تركيا عند هذا الحد لكنهم يطلقون لأنفسهم العنان في التشكيك في إيمان الآخرين وعلاقتهم بربهم على غرارا مافعل أردوغان برفعه المصحف الشريف في أحد المؤتمرات الانتخابية في جنوب شرق تركيا ليقول إن هؤلاء الذين يعارضونه ويعارضون العدالة والتنمية لايعرفون شيئا عن كتاب الله وكأنه عاد إلى زمن صكوك الغفران التي أشاعت العنصرية والاضطهاد في أوروبا، أو يتهم الأكراد بأنهم يعتنقون الزرادشتية من أجل الحط من مكانتهم وتحقيرهم في أعين الناس.. كل هذا ويقولون إن حزب العدالة والتنمية لايمارس السياسات الشعبوية.
إذا أردنا الحديث عن الكذب كأساس لتركيا الجديدة فلن نستطيع أن نحصى مظاهر هذا الكذب، لكن الواقع المرير الذي أفرزه هذا النهج هو أن من يدعون أنهم مسلمون بحق هم الذين يسيئون إلى تجربة الحكم الإسلامي باتباع أساليب السياسة الرخيصة وتوظيف الدين من أجل التغطية على الفساد والرشوة والسرقة والتدهو الاقتصادي وانعدام القانون وغياب العدالة.