عمر نور الدين
زال البريق وانكشفت الحقيقة، وسقط النموذج التركي الذي حظي بقبول كبير في منطقة الشرق الأوسط، في فخ الأطماع الشخصية لأصحاب الأيولوجية الحزبية الضيقة ومعتنقي الفكر الاستقطابي.. ومن أعادوا انتاج الوصاية المدنية للإسلام السياسي من رحم الوصاية العسكرية، في ثوب فاشي بغيض.. لم يتآمر أحد على تركيا ولم يرفضها.. لكنها انحرفت تحت قيادة حزب العدالة والتنمية عن مبادئ وقيم العلاقات والقانون الدولي في سياستها الخارجية، فضلا عن سحق الديمقراطية ودولة القانون والحقوق والحريات بداخلها، ليأكل النموذج الواعد نفسه بنفسه من داخله.
إن تصرف قادة العدالة والتنمية، وفي مقدمتهم بالطبع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي ينظر إلى كل شئ في تركيا على أنه يخصه وحده.. الدين، الوطن، الحكم، الحزب، القانون، الحرية، التعليم، الاقتصاد والسياسة بكل مشتملاتها، نقل تركيا من وضعية النموذج إلى العزلة الحقيقية.
هل حقا كان هناك ما يسمى بالنموذج التركي؟ .. واقع الأمر أن فكرة هذا النموذج ولدت مصاحبة لمشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد الذي بدأ الإعلان عنه صراحة عام 2005 مع نظرية الفوضى الخلاقة التي روجت لها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كونداليزا رايس، والتي تظهر نتائجها غير الخلاقة بصورة جلية اليوم في الشرق الأوسط.
الفكرة كانت تقوم على تعميم نموذج ما يسمى بالإسلام المعتدل في المنطقة وبدأ الإعداد لها وتطبيقها مع ظهور حزب العدالة والتنمية على الساحة السياسية في 2001 وصعوده إلى حكم تركيا في 2002 وحتى الآن، وتواكب مع ذلك حملة دعاية كبيرة لتركيا استخدمت فيها وسائط سياسية وإعلامية داخل تركيا وخارجها، لعل أبرزها في منطقة الشرق الأوسط قناة ” الجزيرة القطرية”.
كان المفترض أن يكون هذا النموذج الذي جرى الترويج له تلخيصا لمنظور جديد من الديمقراطية الإسلامية بمعنى الجمع بين الديمقراطية الحديثة والإسلام الوسطي أو المعتدل، وكان يمكن لتركيا أن تنجح بالفعل في قيادة هذا النموذج وأن يكتب له قدر من النجاح لو أن القائمين على تطبيقه أعلوا من شأن الديمقراطية والتكافؤ في العلاقات مع دول المنطقة بدلا عن محاولة انتهاز الفرصة لتحويلها إلى مناطق نفوذ يجب استعادتها في إطار ما سمي بالعثمانية الجديدة ، التي استندت إلى نظرية “العمق الاستراتيجي” لصاحبها رئيس الوزراء التركي الحالي أحمد داودأوغلو.
لم يكن ترحيب الدول العربية تحديدا بهذا النموذج، نابعا عن سذاجة أو انعدام رؤية كما اعتقد قادة العدالة والتنمية، ولذلك انفتح العرب على تركيا، بصفو نية، اعتمادا على أن الطرف المقابل جاءهم بيد ممدودة بالتعاون الصادق، إلى أن انكشفت النوايا الحقيقة لحكام تركيا من العثمانيين الجدد، الذين أرادوا استبدال الاحتلال الأجنبي القديم والاستعمار الكريه بصورته وهيئته واختلافه العقيدي مع المنطقة، باحتلال يقوم على الأخوة الاسلامية، ويحاول استعادة أمجاد الخلافة، ولكن في رداء جديد.
وكانت ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، هي النقطة الكاشفة والمفصلية التي سقطت عندها الأقنعة، وظهر أن النموذج التركي المرحب به، كان في الحقيقة يخفي وراءه أطماعا ذاتية لحزب واحد ورجل واحد أوهمه بعض المصفقين له بأنه سيكون خليفة المسلمين الجديد.
ظهر الوجه الحقيقي لأردوغان في المنطقة، إذ أصبح لاعبا أساسيا في عدم الاستقرار، ودفع تركيا إلى خيارات ظهر فيما بعد أنها لم تكن مقبولة من جانب الشعوب صاحبة الشأن وظهر ذلك بوضوح شديد في الحالة المصرية.
إذن لم يتآمر أحد في المنطقة أو خارجها لإسقاط النموذج التركي وإنما بدأ النموذج يأكل نفسه بنفسه من الداخل، ويتعرى في الخارج.
وإذا ما انتقلنا إلى الداخل، إلى تركيا، لوجدنا الصورة متطابقة، فالربيع العربي انطلق في مطلع العام 2011، وهو العام الذي شهد انتخابات برلمانية في تركيا فاز بها حزب العدالة والتنمية للمرة الثالثة ليحكم تركيا منفردا، وبدأ الحزب في هذا العام أيضا يفقد أهم صفاته، وهي كونه حزبا مركزيا يجمع مختلف أطياف الشعب والمجتمع في تركيا، لتصطبغ سياساته بصبغة فردية، ولتتحول توجهاته إلى نزعة استقطابية انقلبت بعد ذلك إلى نوع من الفاشية التي هي من نقاط ضعف الإسلام السياسي عندما ينحرف عن المبادئ.
وأطلق الحزب وحكومته ورئيسه بعد ذلك العنان، لتصفية كل خصومه حتى لو كان منهم حلفاء مخلصون بالأمس القريب، في إطار عملية هندسة لما يسمى بتركيا الجديدة التي بدا أن أبرز معالم صورتها هو غياب دولة القانون وتراجع تركيا عن مبادئ دستورها الأساسية التي تضمن استقلالية المؤسسات واعتماد سياسات اجتماعية وقانونية، وتحولها نحو الديكتاتورية وحكم الفرد، مع أن هذا الفرد كان بالأمس القريب يوجه الانتقادات إلى حكام خرجت ضدهم ثورات الربيع العربي في بلادهم بسبب ديكتاتوريتهم وفسادهم، لتطردهم من القصور إلى المنفى أو السجون.