علي أصلان
بدأت تركيا تفقد قواها في مختلف المجالات بسبب أزمة الحكم الديمقراطي وازدياد الفوضى الداخلية في السنوات الأخيرة، ومن أبرز ما فقدته هو قوةُ وقابلية الإقناع على الساحة الدولية.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]بدأت تركيا تفقد قواها في مختلف المجالات بسبب أزمة الحكم الديمقراطي وازدياد الفوضى الداخلية في السنوات الأخيرة، ومن أبرز ما فقدته هو قوةُ وقابلية الإقناع على الساحة الدولية. [/box][/one_third]إن قوة الإقناع لأية دولة تتأتّى من الانسجام بين القوة الصلبة والقوة الناعمة. وهي تتكوّن من عناصر فكرية وثقافية واجتماعية وديمقراطية واقتصادية وعسكرية، وتتناسب مع مستوى وجودةِ الأساليب والوسائل التي تستخدمونها في تقديم دولتكم والترويج لها في العالم. ولا شك في أن النقاش حول أحداث 1915 أصعب المحن التي تواجهها تركيا.
ثمة سياسة وخطاب رسمي للدولة التركية حول تعرض مواطني الدولة العثمانية من الأصول الأرمنية للخطر والقتل والنفي عن الوطن جراء القرار الذي اتخذه مسؤولون وقت الحرب عام 1915 بخصوص تهجيرهم إلى سوريا. وتهدف هذه السياسة للحيلولة دون تسمية تلك الأحداث بـ”الإبادة” ومطالبة تركيا بدفع تعويضات وعدم تضرر صورتها في العالم.
ومع أن الدولة التركية سعت إلى تعبئة الأذهان بالمعطيات والإدراكات التي تدعم هذه السياسة الرسمية عبر طرق مباشرة وغير مباشرة، ونجحت إلى حد كبير في إقناع شعبها بقصتها التي قدمت على مدى الأجيال رؤيةً تاريخية بعيدة عن التعاطف مع الشعب الأرميني، إلا أنها فشلت في إقناع العالم بذلك.
ولو تم رسم مخطط بياني تاريخي لتبيَّن أن قدرة تركيا على إقناع العالم بأطروحاتها حول أحداث 1915 تتضاءل باستمرار على الساحة الدولية. وفي الذكرى المئوية لتلك الأحداث، فقد ظهر بصورة أكثر وضوحاً تراجعُ الأسهم في المخطط البياني كما ذكرنا. إذ ذُكرت كلمة “إبادة” بشكل رسمي من قبل الفاتيكان وألمانيا وروسيا، بالإضافة إلى البرلمانين الأوروبي والنمساوي. في حين أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما ذكر في كلمته التي ألقاها في 24 أبريل كلّ الإحداثيات المشيرة إلى وجود إبادة، لكنه لم يضع النقاط على الحروف فقط. أما الخارجية التركية فمشغولة منذ أسابيع بإرسال مذكرات للدول الأجنبية وسحبِ سفرائها وتوجيهِ اللوم. خلاصة القول إن المشهد الحالي ليس براقاً.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إن قوة الإقناع لأية دولة تتأتّى من الانسجام بين القوة الصلبة والقوة الناعمة. وهي تتكوّن من عناصر فكرية وثقافية واجتماعية وديمقراطية واقتصادية وعسكرية، وتتناسب مع مستوى وجودةِ الأساليب والوسائل التي تستخدمونها في تقديم دولتكم والترويج لها في العالم.[/box][/one_third]وكان من المعلوم أن عام 2015 سيمر عصيبا على أنقرة، وأن الأرمن وحلفاءَهم قد جهزوا واستعدّوا جيدا لهذا العام. ولا شكّ في أن هناك عواملَ أخرى تفوق الذكرى المئوية لأحداث 1915 دفعت تركيا إلى هذه الدرجة من ضعف الإقناع والعزلة في العالم. حيث إن الحساسية العالمية جراء تغيير النظام فعلياً في تركيا بقيادة أردوغان، له أثر كبير في ذلك أيضاً. فتدهور العلاقات مع دول الجوار، ولمس الوتر الحساس للدول الكبرى، والشعوب التي تتعرض للإهانة، والنظام الهش، وعدم الاعتراف بالحدود، والغرور، وبذاءة اللسان، كلها من الأمور التي تسبب الضجر والاستياء في الداخل والخارج.
إن الدول تفلح أحيانا في إقناع العالم بصدق أطروحاتها الوطنية على الساحة الدولية بمساعدة قوتها الناعمة، لكن يبدو أن القوة الناعمة لن تتمكّن من التغطية على مشكلة 1915. وفوق ذلك فإن المثقفين والفنانين الذين يحظون بالاحترام الدولي والذين يمثلون القوة الناعمة لتركيا لا يلتزمون عموما بخطابات الدولة المتطرفة. وإذا ما ازدادت التعددية الديمقراطية فإن عامل القوة الناعمة سيتحول ضد الدولة أكثر.
وفي هذه السنة نظمت وحدات الحكومة التركية بعض الأنشطة الجماهيرية السرية في أمريكا. حيث تم استهداف أوباما والمجموعات الأرمنية. وحتى لو بدت في الوهلة الأولى أنها مساهمة في قوة تركيا الناعمة فإن مثل هذه الأنشطة تظل ضعيفة لإقناع الأمريكيين. بل قد يكون لها تأثير معاكس يدفع واشنطن والشارع الأمريكي إلى تصنيف تركيا ضمن الأنظمة التي تؤسس مؤسسات مجتمع مدني كي تلقّنَ الشعب ما يحقق مصالحها وتعيدَ ترتيبه وهيكلته وفق رؤيتها وأهدافها.
ومن ناحية أخرى، فإن الدفع بالأقلية التركية المسلمة حول العالم للخروج إلى الشوارع لتنظيم تظاهرات في ظلّ مجتمع أغلبه من المسيحيين ولا يقتنعون بالأطروحات التركية، قد يؤدي إلى ظهور مشاكل أمنية. فالجالية التركية في أمريكا يجب تشجيعها على الحوار لا على الخلاف مع الأرمن والإدارة الأمريكية. ويجب التعامل مع هذه القضية بنظرة ثقافية لا سياسية.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]لا أشكّ في أن قدرة تركيا على الإقناع على الصعيد المحلي والدولي مرهونة بتطوير الديمقراطية والقوى والعناصر المدنية ووجود اقتصاد وجيش قويين. فلا داعي لإحداث ضجة جوفاء.[/box][/one_third]وليست أنقرة هي الوحيدة التي انتهجت سلوكاً غير مخلص من الناحية الأخلاقية حول أحداث 1915. فمعظم الحكومات الأمريكية السابقة، ومعها الكونجرس، مع أنها تعتقد بحدوث” إبادة” ضد الأرمن، إلا أنها تخلّت عن قيمها الأخلاقية بسبب القيمة الجيوإستراتيجية التي تتمتع بها تركيا. لماذا؟ لأن الشعبين التركي والأرميني بالنسبة لأمريكا لا يعدلان حتى قاعدة “إينجرليك” العسكرية في تركيا. فهذه المصالح الأمريكية هي التي تدفع بالبيت الأبيض إلى السعي لإعادة إيران للمجتمع الدولي، والسماح لتركيا بأن تقيم نظاماً على النمط الإيراني، والتعامل مع أحداث 1915 بازدواجية المعايير. لذا فمطالبة الاستراتيجيين الأمريكيين بإيجاد قواعد عسكرية بديلة لقاعدة إنجيرليك ليست عن عبث أو من قبيل الصدفة.
وأخيرا تم تأكيد هذا الموضوع في تقرير لـ”مركز سياسة الحزبين الجمهوري والديمقراطي” (Bipartisan Policy Center).
ويرى خبراء أن أمريكا ما دامت متمسكة بقاعدة إنجيرليك فإنها لن تعارض التطورات السلبية التي تشهدها تركيا. وإن مستبدي أنقرة الحاليين، كالمستبدين السابقين، يستفيدون من قاعدة إنجيرليك بشكل جيد، كي يحافظوا على مشروعيتهم.
وأعتقد جازماً أن الموضوع الأساسي في لقاء وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو بنظيره الأمريكي جون كيري كان يدور حول إمكانية السماح باستخدام قاعدة إنجيرليك ضد تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي (داعش).
لا أشكّ في أن قدرة تركيا على الإقناع على الصعيد المحلي والدولي مرهونة بتطوير الديمقراطية والقوى والعناصر المدنية ووجود اقتصاد وجيش قويين. فلا داعي لإحداث ضجة جوفاء.