عبد الحميد بيليجي
كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد وصل إلى السلطة بعدما قدَّم وعدًا بشأن تحويل وجهة تركيا إلى المسار الديمقراطي على خطى تحقيق معايير الاتحاد الأوروبي. وكان أكبر رأس مال لديه هو سجْنه بسبب بعض أبيات الشعر التي تلاها والظلم الذي تعرَّضت له الفئة المتدينة التي خرج هو من بينها.
كان من الظلم كل المحظورات والصعاب التي واجهها رجال الأعمال الذين وصفوا بـ”رأس المال الأخضر” مثل المعاملة السيئة التي تعرَّضت لها الفتيات المحجبات في مراحل التعليم المختلفة والتمييز ضد طلبة مدارس الأئمة والخطباء والضغوط الممارسة على الجماعات والطرق الصوفية والتمييز الممارس ضد وسائل الإعلام التي يمتلكها المتدينون. وقد استغل أردوغان مظاهر الظلم هذه التي تعرَّض له التيار الإسلامي في الماضي لتحقيق أغراضه السياسية، وأخذ يذكّر الشعب بالضغوط التي مورست على المتدينين خلال حقبة الحزب الواحد.
وأنا بدوري أعرف جيدًا كيف أن هذا الظلم الذي مورس على الطبقة المتدينة من الشعب التركي جرح الناس كثيرًا بصفتي مواطنًا تركيًا تعرّض على الأقل لبعض أنواع هذا الظلم. ولهذا السبب فكان تطورًا إيجابيًا أن يخرج علينا فريق سياسي يسعى لحل هذه المشاكل التي أضرت بقطاعات عريضة من الشعب ويقدِم على خطوات إيجابية في سبيل بلوغ هذه الغاية. وكانت السياسات التي انتهجتها حكومة حزب العدالة والتنمية حتى العامين أو الثلاثة الماضية، لاسيما الإصلاحات التي نفذها في سبيل الحصول على العضوية الكاملة بالاتحاد الأوروبي، تسير نحو تحقيق هذا الهدف. وكان ما قامت به الحكومة يصب ليس في مصلحة الفئة المتدينة فقط بل في صالح عموم الشعب التركي، وذلك مثل الخطوات التي أقدمت عليها على طريق إعادة أوقاف غير المسلمين إلى أصحابها أو تطبيع العلاقة بين الحكومة المدنية والمؤسسة العسكرية.
ولو كانت تركيا قد واصلت سيرها في طريق الديمقراطية لكانت ستصبح مصدر أمل في العالم الإسلامي والشرق والغرب على حد سواء. غير أن فريق العدالة والتنمية الذي تعرَّض بالأمس لظلم العلمانيين آثر ممارسة الضغوط على فئات الشعب المختلفة بدلًا عن متابعة السير في الطريق الديمقراطي. ولن يغني عنه حصوله على دعم فئة من الشعب أغلبهم من المتدينين؛ إذ إنه ربح عداوة قطاعات عريضة من الشعب.
ولفهم رؤية حكومة حزب العدالة والتنمية الديمقراطية خلال تلك الحقبة التي حادت فيها عن الطريق المستقيم، يمكنكم النظر إلى مثال عدم عثور حزب سياسي أُسس حديثًا على قاعة في العاصمة أنقرة لعقد اجتماع. أما النماذج الأخرى مثل غلقه لملفات الفساد من خلال التدخل في عمل جهاز القضاء وعدم تنفيذه لقرارات المحكمة ومعاقبته للعاملين في السلك القضائي ممن يصدرون قرارات على غير هواه فتعطينا فكرة حول نظرة أردوغان وحزب العدالة والتنمية الجديد للقانون. ولفهم نظرتهم إلى حرية الإعلام فيكفيكم أن تنظروا إلى الإعلام الموجَّه الواقع تحت سيطرة الحكومة وما ينشره من أخبار لا تلتزم بأية معايير أخلاقية، والصحفيين المسجونين، ونتائج استطلاعات الرأي، والأخبار المنشورة على شرائط القنوات الفضائية، وكل شيء أظهر تدخل أردوغان بنفسه في عمل وسائل الإعلام والصحف.
كان فاتح ألطايلي قد لخّص البُعد الفظيع الذي وصل إليه الضغط الممارس على وسائل الإعلام من قبل الحكومة كالتالي: “لا يخفى على أحد أن جميع وسائل الإعلام في تركيا تواجه الضغوط نفسها. ولو ظهرت غدًا فحوى اللقاءات التي عقدها مسؤولي وسائل الإعلام الأخرى مع الحكومة سنرى أن وضعهم لا يختلف كثيرًا عن وضعنا”.
ويشير إلى الأمر نفسه ما قاله أنيس بربر أوغلو أحد شهود تلك الفترة، والذي تولى مناصب حساسة مثل تمثيل صحيفة حريّت في أنقرة ورئاسة تحريرها، إذ قال: “تقع أحداث جيزي بارك، ننشر أخبارًا تتناول فضيحة الفساد والرشوة الأخيرة وكارثة منجم سوما ويبقى من لم يضربه الرجال. فهو يرغب في أن تكتب جميع الأخبار التي تتناول الأحداث بالطريقة التي يرغب بها وتحول دون خسارته لمزيد من الأصوات الانتخابية ليضلل الرأي العام… والجريدة التي يريدها أردوغان تبدأ كالتالي:
في الصفحة الأولى تكون صورته وخبر يتحدث عنه، وفي الصفحة الثانية تكون صورته وخبر يتحدث عنه، وفي الصفحة الثالثة صورة أسرته، وفي الصفحة الرابعة صورة أقاربه، وفي الصفحة الخامسة صورة حزبه”.
(مجلة أكسيون)
لا شك في أنه من غير المنطقي أنه لا يزال يتحدث عن حقب الظلم وفترة الحزب الواحدة في الوقت الذي أصبحت فيه الحقيقة واضحة هذا الوضوح. فحتى لو أسموا هذا النموذج بنموذج “تركيا الجديدة” فإننا لا نزال نعيش في “تركيا القديمة” من خلال توجه الرجل الأوحد وتحول مؤسسات الدولة إلى تنظيم حزبي والسعي لتشكيل أيديولوجية حكومية جديدة وترويج الفكر القانوني والإعلامي الملوث. ولكي تدركوا حجم التشابه بين “تركيا الجديدة” و”تركيا القديمة”، أسرد لكم بعض التعليمات التي كانت تصدرها الحكومة إلى وسائل الإعلام في أربعينيات القرن الماضي:
“سرق 15 قاطع طريق 3 سيارات وقتلوا شرطيًا بمدينة هطاي واختلسوا 15 ألف ليرة ولاذوا بالفرار. ممنوع نشر هذا الخبر”. (29/8/1941)
“لن ترد أية معلومة في الصحف بأية صورة عن التصريح الذي أدلى به النائب الجنرال كاظم كارا بكير”. (23/12/1940)
“ممنوع نشر أي أخبار سوى أخبار وكالة الأناضول بشأن الجولات التي سيخرج فيها رئيس الجمهورية عصمت إينونو”. (29/8/1941)
“ممنوع نشر أي أخبار تتعلق بالزيادات المتوقعة على الضرائب”. (19/3/1941)
“يجب نشر رسوم كاريكاتيرية معتدلة تتناول رؤساء الدول الأجانب ورؤساء اللجان التنفيذية”. (22/5/1940)
هل فهمتم ما هو الطريق الذي تسير فيه تركيا بينما كان شعبها ينتظر أن تسير في طريق تحقيق معايير الاتحاد الأوروبي؟
جريدة زمان 28/4/2015