علي يورطاجول
تشير إحصاءات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNCHR) إلى أن 800 شخص لقوا حتفهم إثر غرق سفينة كانت تقلّهم نهاية الأسبوع الماضي قبالة السواحل الليبية.
وفي اليوم نفسه أنقذ أكثر من 100 شخص بأعجوبة من الغرق المحقق بعدما اصطدم القارب الذي كانوا يستقلّونه بالصخور القريبة من ساحل جزيرة رودس، فيما بلغ عدد من ماتوا في هذه الحادثة ثلاثة أشخاص” فقط”. وليس من قبيل الصدفة أن يكون عدد النساء والأطفال هو المرتفع بين القتلى. فليس الشباب الذين انطلقوا للعمل في أوروبا لبضعة أشهر لكسب المال والعودة بل الذين خرجوا في رحلة خطيرة. فالناس يأخذون أهليهم وأبناءهم ويهربون في طريق اللاعودة. يهربون من ليبيا التي لم يعد بها شيء اسمه دولة، ومن القارة الإفريقية التي تفعل بها التنظيمات المتطرفة مثل بوكو حرام ما تشاء، ومن سوريا التي انحصروا بها بين تنظيم داعش الإرهابي وبراميل نظام الأسد المتفجرة، ومن الكارثة في معسكرات اللاجئين. يعرفون أن مياه البحر المتوسط يمكن أن تكون قبورهم. يقرؤون الأخبار التي تتحدث عن حوادث غرق السفن والقوارب، ويعرفون كل شيء من حكايات من خرجوا إلى ذلك الطريق قبلهم. ويعرفون حكايات الموتى والناجين و”الناجحين” أفضل من أي شخص. يعرفون أنهم يخاطرون بحياتهم، كما أنهم على يقين من أن الخطر الذي جعلوه وراء ظهورهم أكبر بالنسبة لهم.
لن نتعمق في هذا الموضوع لنتناول أعماق إفريقيا والشرق الأوسط حتى اليمن والصومال وغيرهما، بل سنكتفي بنموذجي سوريا وليبيا. فبحسب إحصاءات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لشهر ديسمبر / كانون الأول عام 2014 فقد بلغ عدد الهاربين من سوريا 4.1 مليون شخص، فيما يبلغ عدد المهاجرين داخل سوريا 8 ملايين شخص. وتظهر هذه البيانات أن نصف الشعب السوري هجر موطنه. هرب هؤلاء إلى تركيا والأردن ولبنان، وأوضاع من يقيمون منهم في الأردن ولبنان حرجة. فلبنان استقبل 1.5 مليون لاجئ، وهو رقم يعادل تعداد سكانه الأصلي. فهذا الحِمل لا يمكن للبنان تحمله ليس من الناحية الاقتصادية فقط بل من الناحية السياسية كذلك.
أما الأردن فيواجه مشكلة مشابهة؛ إذ تحاول حكومة عَمّان أن تضمن إقامة مئات الآلاف من اللاجئين في المخيمات، وهدفها من ذلك هو الحيلولة دون تسبب هؤلاء اللاجئين في نشوب أزمة سياسية في البلاد. فالأوضاع في المخيمات مذرية. يهربون إلى تركيا، فهي الدولة الوحيدة التي لا تزال تنتهج سياسة “الباب المفتوح”.
هناك أقاويل تقول إن عدد اللاجئين السوريين في تركيا تخطى حاجز مليوني لاجئ. لكن أحدًا لا يعرف الرقم الحقيقي، فعددهم لا يقل، بل يواصل الزيادة كل يوم. فالسوريون في مدن أنطاكيا وكيليس وغازي عنتاب وأورفا أصبحوا جزءًا من حياة المدن. فالسكان المحليون لم يعودوا يستغربون سماع اللغة العربية في كل مكان. كما أصبح اللاجئون جزءًا لا يتجزأ من المدن الكبرى. هذا فضلًا عن أن اللغة العربية صارت جزءًا من الحياة اليومية في ميدان تقسيم الشهير بإسطنبول. ولقد كانت البنية التحتية المؤسسية التي اكتسبتها تركيا عن طريق سياسة الزلازل والهجرات في تركيا قد أبلت بلاء حسنًا في الأزمة السورية. فكان من الصواب أن تخلَّت أنقرة عن هدفها لتسكين اللاجئين في المخيمات كما كان الحال في الأشهر الأولى ومنحهم حق التجول والعمل. وإن شهدنا في الصحف التركية أخبارًا تتحدث عن “مشاجرات مع سوريين في تركيا”، فإن هذه المشاجرات ليست أكثر من تلك التي تقع مع أهل ماردين في مدينة إسكندرون على سبيل المثال.
على أية حال، يبدو أن الوضع قابل للاستمرار في الوقت الراهن. وبالرغم من ذلك فإن سؤال: “هل يمكن لتركيا أن تواصل انتهاج سياسة الباب المفتوح؟” يبقى سؤالًا يجب التوقف أمامه والتفكير به مليًّا. فالأزمة السورية ستستمر؛ إذ إن “التوازن” الدولي، أو بالأحرى “الاحتقان” الدولي، يشير إلى أن هذه الأزمة لن تحل في القريب العاجل. كم من الملايين من اللاجئين السوريين يمكن أن تتحملهم تركيا؟ إذا تعمقت الأزمة الاقتصادية هل ستتغير النظرة إلى السوريين؟ فعلينا أن نتساءل عن هذه الأسئلة ونتخذ التدابير اللازمة قبل فوات الأوان.
أما ليبيا فقد أصبحت معضلة أوروبا. فالناس يدفعون فاتورة السياسات الداخلية للرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ساركوزي ومغامرة” الحساب” مع معمر القذافي. كما أصبحت الدولة في حكم الضياع في ليبيا. والعصابات صارت مؤثرة لدرجة أنها والسواحل قسمت إلى قطع. الناس يفرون هاربين. والديمقراطية لايمكن بناؤها بالقنابل، فليبيا نموذج لمن يعتبر.
لقد أصبحت ليبيا – في الوقت نفسه – “بوابة أوروبا” بالنسبة لمن يهربون من مجاهل إفريقيا والعصابات مثل بوكو حرام والمجاعات والمعيشة الضنك. وتجار البشر يملؤون السفن الخربة بالناس ويرسلونهم إلى رحلتهم الأخيرة وقبورهم في مياه البحر المتوسط. أما أوروبا فتتأرجح بين ترميم جدران القلاع المتهدمة وفتح الأبواب. وبقدر صحة قرار القمة الاستثنائية للاتحاد الأوروبي، كان من الصحيح عدم انتظار ظهور شيء جديد من هذه القمة. ولن يتوقف هذا التدفق من اللاجئين دون أن تهدأ آلام الناس في سوريا والصومال والعراق واليمن وإفريقيا.