أكرم دومانلي
يعترف نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرينتش بحقيقة مرة: “شهادتنا على الإسراف مطعون عليها.. فلو أننا امتنعنا عن الإسراف لما احتجنا لجمع الضرائب منكم”. هذا هو الواقع للأسف. فهلا نظرتم إلى ما آلت إليه التضحية من أجل “القضية”. وقد سمعنا مثل هذه الشكاوى من قبل. ولكن دون اتخاذ أي إجراء.
فعلى سبيل المثال كتب المدير السابق لوكالة أنباء الأناضول كمال أوزتورك في إحدى مقالاته باسمه المستعار: “لقد تعرضنا للمحاسبة من حيث لا نحتسب. إذ فشل أبناء هذه القضية في الامتحان بالمال والمنصب والجاه، كما غرقوا في ذنوبهم واستمروا بغفلتهم”. فهل قاموا بشيء لإيقاف هذه التطورات؟ ياللأسف!
أفلا تتذكرون الصحابي الجليل أبا ذر حين تستمعون لمثل هذه الاعترافات السرية والعلنية! فالناس شهدوا كيف كان يستلهم أرباب الإسلام السياسي من أبي ذر كلما سنحت لهم الفرصة. فمن خلال سيرته كانوا يستخرجون إشارات في تحدي الطواغيت ومجابهة النظام القائم وإنهاء ظلم الدولة. فقد كان أبو ذر رمزا لعصيان ثوار المسلمين.
في الحقيقة ليس من الصواب أن نقرأ حياة صحابي كأبي ذر من الناحية السياسية فقط لاستلهام فكرة سياسية من حياته. فهو مثال صادق للإيمان من خلال زهده وتقواه وشجاعته وحبه. وإلى جانب كل تلك الخصال الحميدة كان يمتاز بخاصية جعلت من سيرته ملحمة على الألسن. فهو مصدر إلهام لمنتقدي السلطة وهم بعيدون عن المناصب من الذين يفكرون في خدمة الإسلام عن طريق السياسة وذلك لأنه ظل على الحق ولم يغترَّ بمتاع الدنيا. حيث كان يناهض الأبهة والبذخ والسلطنة وتكبر الحاكم وظلم الدولة دون أن تكون له أية غاية شخصية.
وكان أبو ذر، رضي الله عنه، من السبّاقين إلى الإسلام ومن أوائل الأوابين الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم. وقد حضر إلى مكة سرًّا. والتقى بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد اجتيازه للكثير من العقبات. فمن خلال محبته للرسول صلى الله عليه وسلم نطق بالشهادتين معلنا إسلامه. لكنه لم يستطع البقاء في مكة كثيرا بسبب ظلم المشركين. فعانى من الحسرة لسنين عديدة إلى أن جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة. وحينها نذر نفسه للعلم والعبادة.
وحين ظهرت حياة الترف بين المسلمين وبدأت المجموعات البيروقراطية في كيان الدولة كانت أول صيحة مناهضة لذلك على لسان أبي ذر. ولطالما كان يردد قوله تعالى: “… وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ” سورة التوبة (35-36)
القصر الأخضر والرفاهية
لم يكن صوت أبي ذر يُسمع من الأبراج العالية. ويوما من الأيام جاء إلى والي الشام. وقد كان الوالي أمر ببناء القصر الأخضر حيث صممه معماريون من الفرس والروم. وكأن ذلك القصر الفخم الضخم يعكس عظمة الدولة. وكان ذلك القصر أول أعجوبة في الإسلام. فصرخ أبو ذر قائلا: “إن بنيته من مالك الخاص فهو إسراف، وإن بنيته من مال الدولة فهو خيانة”.
وهذا لم يرق لأصحاب النفوذ فقالوا: “لو كنا قاتلين صحابيا لكنت أنت من قتلناه يا أبا ذر”. ويحهم لم يعرفوا أسد قبيلة غفار. إذ لم يكن بوسعهم إخافة ذلك الصحابي الشجاع. وما كانوا ليفهموه، فلم يكن يطمع في ثروة أحد. بل كان يبحث عن صفوة الإسلام التي بدأت تنهار، وكان يحاسب الذين ضربوا بنقاء الإسلام عرض الحائط. ولم يكن يطمع في منصب أو جاه. بل كان متعففا مستغنيا عن ذلك.
نصبوا بعض المكائد لإسكات أبي ذر أو لشرائه. ودُبِّرت له مكيدة عن طريق أحد العبيد. فقالوا له إن استطعت أن تقنعه بأخذ صرة الذهب هذه فأنت حر وإلا ستبقى عبدا مدى الحياة. فجاء العبد إلى أبي ذر وعرض عليه صرة الذهب، لكن هل يصبح عبد الله عبدا للمال أو الجاه أو القصر، وما إلى ذلك؟. رفض العرض وأخذ العبد يتوسل إليه ليقبله قائلا له: “حريتي منوطة بقبولك هذه الصرة” فقال له أبو ذر كلمته التي دخلت في سجل التاريخ: “وعبوديتي أنا في قبولي لهذا المال”.
فيا من ضحيتم بحريتكم من أجل صرة من الذهب، وتشاركون في الظلم وترضون بالعبودية من أجل السلطة، وفديتم جميع القيم المقدسة من أجل العيش في القصور والفيلات واليخوت، تعالوا لنفكر في أبي ذر مرة أخرى! فبالأمس كنا نعد الإنسانية بعالم نقي كالبلور محيين ذكرى ذلك الصحابي الجليل. حيث كنا نضرب المثل بأبي ذر ونتخيل عالما يتساوى فيه الجميع وتزول الفروق بين الغني والفقير ولا يتعرض أي شخص لظلم الدولة، وتسود فيه حرية التعبير.
فهل كانت تلك الجهود المبذولة من أجل الإعراض عن ثمرة مئة سنة من الإرهاق، واستنزاف الموارد البشرية دون أي رادع، وإطلاق مئات الأكاذيب يوميا لتحقيق المكاسب الشخصية. ومضى وقت طويل لم تذكر فيه السياسة الإسلامية اسم أبي ذر على لسانها. فكيف لها أن تذكره، فليلتفت كل منا إلى خلفه ليرى الفرق بين ثرواته المالية قبل 10 سنوات وما هي عليه الآن، فذلك هو مقياس بعد الإنسان عن أبي ذر والصحابة وعن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكان عمر رضي الله عنه رأى آثار الحصير على جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استراح عليها، فبكى قائلا: “يا رسول الله الأكاسرة والقياصرة ينامون على أسرة من ريش الطيور وأنت تنام على هذه الحصير وقد تركت أثرها على جنبك” فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “ألا ترضى يا عمر أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة”.
ولم تكن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مظاهر الأبهة والبذخ والتكبر والترف. وهذا ما كان يريده أبو ذر. والكل مضطر لاتخاذ القرار: إما أن يختار العيش كقارون أو يختار العيش كأبي ذر على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم.