فؤاد صاري
إن نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرينتش إذ يتحدث عن الإسراف الشائع لحكومة حزب العدالة والتنمية الذي علا شأنه من خلال أصوات الفقراء، يتحدث في الوقت نفسه عن قصة تحول صورة “الحزب الأبيض” في نظر الشعب إلى حزب العدالة والتنمية في أحضان الأبهة والترف والبذخ. وأذكر جيدا أن أول عمل قام به الكادر المؤسس للحزب الذين خرجوا من بين الشعب وذهبوا إلى العاصمة أنقرة هو إزالة الحواجز بين الشعب وأعضاء البرلمان من خلال عدم سكنهم في المساكن المخصصة لهم.
وقال رئيس البرلمان حينها بولنت أرينتش، الذي حصل على تقدير كبير لدى الرأي العام : “إن مهمتنا هي التلاحم مع شعبنا. وإن تكلفة صيانة كل بيت من البيوت المخصصة لأعضاء البرلمان تفوق 1000 ليرة تركية. وقد يصل هذا الرقم إلى 1500 ليرة في حال تطلب الأمر المزيد من أعمال الصيانة والاستثمار والترميم. وبذلك خلصنا ميزانية الدولة من هذه الأعباء المالية التي كانت مخصصة للمجمعات السكنية المخصصة للبرلمانيين. وهذا الإجراء يستحق التقدير والتصفيق”.
ووقعت مفاجآت كثيرة خلال 13 عاما، وتغيرت المسارات بشكل يعاكس ما كان مخططا له من قبل. فبدأت تظهر الفيلات الفاخرة بدلا عن المجمعات السكنية، والقصور الفخمة بدلا عن البنايات المتواجدة في الأحياء المتواضعة. وكثير من المناضلين أصبحوا اليوم يدخنون سيجار الهافانا في القصور المطلة على مضيق البوسفور. وحتى مؤسسات الدولة أصبحت تظهر عليها مظاهر البذخ حيث باتت تقدم خدماتها في أفخم مراكز العمل وهي تدفع إيجارات باهظة. حتى إن الأمر وصل إلى درجة تخصيص سيارة فاخرة من آخر موديل بقيمة 769 ألفا و300 ليرة لوزير ستنتهي مهامه بعد شهرين. وإن تخصيص سيارة بقيمة مليون دولار لرئيس الشؤون الدينية في هذا البلد أمر يستدعي التفكير والتأمل.
وفوق ذلك ليست لدينا قدرة مالية تتحمل مظاهر الأبهة هذه. وحتى في ظل انخفاض أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها لا يزال المواطن التركي يستهلك أغلى بنزين في العالم. وقد وصلت أعداد العاطلين عن العمل إلى 6 ملايين، وأسعار الدولار في تزايد مستمر وتحطم رقما قياسيا جديدا كل يوم. كما أن الشركات أصبحت تفكر في التوفير فراحت تسرِّح عمالها لتراكم الديون عليها. أما التجار فيعانون من الأزمة، حيث إن أسعار المواد الغذائية ترتفع يوميا. والمسؤولون يتفاخرون بسداد 20 مليار دولار من الديون لصندوق النقد الدولي. مع أن الديون الخارجية لتركيا في 2002 كانت 130 مليار دولار، ولكنها خلال 13 عاما من حكم العدالة والتنمية تضاعفت 3 مرات لتصل إلى 400 مليار دولار. فالأزمة الاقتصادية على الأبواب. كما أن بعض المواطنين الذين لم يستطيعوا سداد ما عليهم من ديون لجأوا إلى إشعال النار في أنفسهم.
فما الذي يفعله مسؤولو الدولة في ظل هذه التطورات، وهم الذين يدعون بأنهم على نهج النبي (صلى الله عليه وسلم) وخلفائه الراشدين؟ إنهم للأسف منهمكون في بناء القصور الفاخرة والمساكن ذات الـ 250 غرفة، ويؤسسون مطابخ متواضعة(!) بقيمة 6.5 مليون ليرة تركية لكي يشربوا الشاي الأبيض (المعروف بشاي الملوك) بكؤوس مذهبة (الواحد منها ب1000 ليرة). ومنهمكون أيضا بشراء الفيلات واليخوت والشقق وأساطيل السفن التي ينفخون أشرعتها بإمكانيات الدولة.
يشير نائب رئيس الوزراء بولنت أرينتش إلى هذا الانحطاط من خلال كلمة “إسراف” التي ذكرها وإن لم يعبر عن ذلك صراحةً، ونحن نعلم أن هناك غير أرينتش من أصحاب الضمائر الحية في الحزب مستاؤون من استغلال إمكانات الدولة علنا لصالح الموالين للحزب وحدهم على مرأى ومسمع من المواطنين.
ولا شك في أن المحسوبية في انتقاء الموظفين، دون اكتراث باعتراض الأغلبية، تقض مضاجع الكادر المؤسس للحزب الذين بدؤوا مشوارهم باسم “القضية”. إلا أن الوضع الحرج الذي يعيشونه لا يترك لهم مجالا للحديث. أما أرينتش فيحاول أن يقول بصوت خافت: “مهلا، أنتم في طريق مسدود”. ولا ندري ما إذا كانت قوة أرينتش تكفي لكسر جدار حلزون الصمت الذي يحيط بذوي الضمائر الحية في حزب العدالة والتنمية أم لا. وإذا لم يجد هذا الصوت أصداء في صفوف الحزب وإذا لم يضم الحزبيون أصواتهم إلى صوت أرينتش فالعاقبة قد تكون أدهى وأمر من الوضع الراهن.
ولإدراك ذلك يكفي النظر إلى مقبرة الأحزاب التي بدأت تُنسى بين الصفحات التي لم تتغبر بعد في كتب التاريخ القريب.