بقلم: الأستاذ فتح الله كولن
إن ميلاد فخر الكائنات يعد ميلادا جديدا للإنسانية كلها. فحتى تشريفه للدنيا لم يكن هناك فرق بين الأسود والأبيض، ولا بين الليل والنهار، ولا بين الورد والشـوك. كانت الدنيا وكأنها في مأتم عام، والفوضى تسـود الوجود… وبفضل النور الذي أنـار بـه الوجود افترق الضياء عن الظلام، وانقلب الليل إلى نهار، وانقلب الكون إلى كتـاب يمكن قراءته كلمة كلمة وجملة جملة وفصلا فصلا… كأن كل شيء قد بعث من جديد، ووصل إلى قيمته الحقيقية.
أجل!.. إن تشريفه الدنيا يعد حادثة كونية، أي أهم حادثـة جرت في الأرض وفي السماء، وبعثا وحيـاة جديدة للإنسانية في الوقت نفسه. فهو بالرسالة النورانية التي حملها بيديه كان يقوم بتنظيم الدنيا من جديد حسب قيم السماوات، وبوظيفة الترجمان للحقائق الموجودة خلف أستار الوجود، وبتقديم تفسير جديد ونظرة جديدة للأشياء وللحوادث. فقد كان الوجود قبله دون معنى ودون روح، قد تمزقت الروابط فيه، وأصبح كل شيء غريبا عن الآخر. كأن الجمادات كانت من قبله رموزا لمسيرة العبث في مسرح الوجود، وتبدو الأحياء وكأنها في قبضة الانتخاب الطبيعي، وفي كل يوم بقبضة موت مختلف. وفي مثل هذه الوحشة المظلمة كان الإنسان يئن من الفراق كل آن كيتيم وكمظلوم. بالنور الذي نشره انـزاحت الأستار وزال سحر الظلام فجأة، وفرّت الشـياطين، وهُزمت الضلالات واستقرت في أعماق الجحيم، وتغيرت ماهيات الأشياء، فانقلب الهدم إلى بناء، والانقراض إلى التعافي. وبدأ المجيء إلى الدنيا والرحيـل عنها يأخذ شكل مراسيم عيد، المجيء إليها عيد ميلاد، وفراقها عرس رحيل.
منذ أن داعب نوره رؤوسـنا زال عن أرواحنـا رعب الفناء، وفاضت بشائر الوصال من ديار الأحبة على الصدور الملتاعة. وبإكسير الحياة الذي نفخه في قلوبنا وفي قلب الإنسانية كلها بدأنا ندرك أنفسنا ونفهمها، وندرك ماهية العلاقات بين الأشياء، ونستطيع تقييم القابليات الموجودة في ماهيتنا وجوهرنا، ونحدس بُعد اللانهاية الموجودة لدينا. لولاه لما اكتشفنا هذا العمق الموجود في أرواحنا، ولا استبشرنا وفرحنـا بالرحلة التي تمر من القبر نحو اللانهاية. هو الذي نثر على قلوبنا انفعالات الوجد والعشق… هو الذي أنار عيوننا بالنور… وهو الذي هيأنا للرحلة إلى بلد الأبد والخلود.
هو بالنسبة للساحل الذي ننتظر فيه بدء هذه السفرة الطويلة والمليئة بالأسرار قبطان السفينة ومرشد الطريق. وهو بالنسبة للعالم الذي نرحل إليه ونصله. المضيف ومستقبل الضيوف ودليلهم، وشـفيع لنا. لذا كانت هناك مسؤوليات معينة لنا تجاهه، ولا يمكن أن نبقى غير مبالين بهذا الأمر أبدا. ولكن الغريب أننا طوال عصور عديدة بقينا غير مبالين برمز الضياء هذا وبرسالته النورانية… لا، ليس فقط غير مبالين، بل أحياناً تصرفنا دون توقير واحترام تجاهه.
ومع أننا نحاول في الحقيقة ضمن دائرة معينة وضمن مقياس ما، القيام بشعائر الاحتفال بمولده بتوزيع بعض الحلويات وماء الورد، وأحياناً بجلب بعض المغنين أو قراء المدائح النبوية لإثبات ارتباطنا به… ولكن كل هذه المحاولات لا ترتقي ولا تتناسب مع عظمته. بل لم تصـل حتى إلى الاحترام والاهتمام الموجه إلى عظماء في التاريخ لا يستطيعون إلا أن يقفوا باحترام أمام سـيد الأنبياء والمرسلين. فمثلا لا نشاهد أي فورة فرح أو مظاهر بهجة كالتي نشاهدها في مناسبات عيد ميلاد المسيح عليه السلام وفي احتفالات رأس السنة الميلادية.
والمقترحات التي يمكن تقديمها هنا ليست بطبيعة الحال من التكاليف الشرعية، فلا يمكن لأي أحد ادعاء هذا. ولكني أتساءل ألا يمكن أن نجعل هذه الاحتفالات -باسم رسالته الهادية النورانية- أكثر عمقا وغنى وجدية؟
يتم الاحتفال بالأيام العائدة إلى السـيد المسيح عليه السلام في جميع البلدان تقريبا، المسيحية منها وغير المسـيحية، بمظاهر كبيرة من الفرح والحبور والبهجة. وتستمر هذه الاحتفالات أسابيع، بل أشهرا، تجري فيها حوارات وكلام في هذا الموضوع. وفي كل أسبوع يتم تبادل التهاني والهدايا باسمه، ويكون هذا هو الشغل الشاغل لدوائر البريد في تلك الأيام، وتدق الهواتف على الدوام من أجله، وترتفع سماعات الهواتف لـه، وتتزين كل الأرجاء بالشـموع، وتغرق الأسـواق والمحلات التجاريـة بالأضـواء، وترتفع الضحكات. تنقلب البيوت إلى خلية نحل تئز بالمشاعر نحوه، وتئن المعابد بأناشيده، ويمر كل يوم ضمن احتفالات ساحرة تدير الرؤوس.
صحيح أن العديد من الناس في هذه الكرنافالات التي يختلط فيها الحابل بالنابل لا يعرفون ما يفعلون ولا يعرفون لماذا يفعلون، ويكون الكثير من تصرفاتهم تصرفات تهريجية ودون أي ضوابط. ولكن مع هذا تَشم في تلك الأيام نوعا من الوجد الديني، وقطاعات كبيرة من الناس تعرف ماذا تفعل.
على أي حال من الأحوال فإن الأيام والليالي المرتبطة بالمسيح عليه السلام قد امتزجت في فكر الإنسـانية إلى درجة أن الجميع -أدركوا ذلك أو لم يدركوه- يجدون أنفسهم في خضم هذه الاحتفالات الغريبة. وسواء أكانت الاحتفالات عبـادة أو لهوا أو تهريجا، فهم يجدون أنفسهم يشاركون المسيحيين المشاعر نفسـها، ويقومون ويقعدون مع هذه المشاعر، حتى إنهم يقومون بقطع أشـجار الصنوبـر وبذبـح الديك الرومي، وبشـرب الشمبانيا، فيسكرون حتى الثمالة، ويخرجون إلى الشارع سكارى لا يدرون ما يفعلون.
طبعا نحن لا نرضى ولا يوجد هناك شخص واحد يرضى أو يقبل تحول مناسبة المولد السعيد والمبارك والمبجل، ولا تحول الدين الإسلامي إلى مثل هذه الكرنافالات. كما لا يملك أحد القدرة على القيام بمثل هذا التحويل. ولكن كلما شـاهدنا كيف أن دنيا يسودها الكذب والريـاء استطاعت استغفال الإنسانية كلها وأخذتها في شباكها… كلما شاهدنا هذا نحاسب أنفسنا ونتسائل بحزن: “لماذا لا يستطيع العالم الإسلامي الاحتفال في ربيع الأول كما يجب بمولد سلطان الأنبياء الذي هو في الوقت نفسه ميلاد هذا العالم وربيعه، ويـوم خلاص الإنسانية نفسها… الاحتفال بنفس المشاعر الجياشة”.
لا يجب أن يتبادر إلى الأذهان مما ذكرنا أعلاه أننا نريد المسّ بمقام سيدنا المسيح عليه السلام وبمنـزلته، أو بمقام أتباعه وحوارييه. فالاحترام والتوقير الذي نحمله نحن المسلمين تجاه هذا الرسـول الكريم لا حد لـه. كما نؤمن بأن الرسالة التي أتى بها تشكل الآن ركنا مهما من أركان المدنية الغربية الحالية. فالمؤرخون وعلماء فلسفة الحضارات يذكرون بأنه لولا رسالة المسيح عليه السلام وما حملته من روح ومعنى لما ظهرت المدنية الغربية. لأن هذه المدنية تعتمد على أركان أو على أسس ثلاثة هي: الفكر اليونـاني (الفكر الرياضي)، والقانون الروماني، ثم الركن الثالث المهم وهو الدين المسيحي. ويجب هنا أن نسجل بأنه لولا فخر الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته الهادية المنيرة لما كانت هناك حضارة تحت اسم الحضارة الإسلامية. ولولا الحضـارة الإسلامية لما كانت هناك الحضارة الغربية.
أجل!.. فلو لم يكن هناك الديـن الإسلامي بسماحته المعروفة ودفئه وتقديره للعلم والفكر وحضّه عليهما… ولولا شروقه على سـفوح الغرب بألوانه السماوية… ولولا قيام العلماء المسلمين والمفكرين الأتراك منذ القرن العاشر بنقل الثقافة اليونانية-اللاتينية إلى أوروبا وتعريفها للأوروبين لبقي الغرب حتى الآن في ظلام القرون الوسطى. وكما هو معروف فإن علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك والهندسة والطب وغيرها من العلوم كلها من منشأ شـرقي، ومنصهرة في البوتقة الإسـلامية. وعلى الرغم من وجود فئة مسـتغربة تتصور أن الغرب وحده هـو مصدر كل شيء متعلق بالمدنية، وهي لا تقبل سوى هذه النظرة، فإن الغرب اضطر لكي يأخذ موضعه الحالي من المدنية إلى الانتظار سـتة عصور بعد بعثة المسيح عليه السلام… انتظر والتقى بالإسلام. وسواء أسْتطاع الغرب تقييم هذا اللقاء كما ينبغي أم لم يستطع، فهذه مسألة أخرى، ولكنه تأثر به دون أي شك، واستفاد منه كثيرا، وخطط مستقبله على ضوئه.
على الرغم من عدم قيـام الغرب بتبني الضوابط التي تشكل أسس الحضارة الإسلامية إلا أنه أخذ الشيء الكثير من الإسـلام واستفاد منه. ولعب ما أخذه عن الإسـلام، وما تداعى إليه منه، دورا كبيرا في تشكيل العقل والفكر الغربي الحديث. لذا نستطيع أن نقول مع الشاعر محمد عاكف:
الدنيا مدينة له فيما تملكه،
المجتمع والفرد مدين له،
البشرية بأسرها مدينة لذلك المعصوم،
يا رب!.. ثبتنا على هذه الكلمة يوم الحشر…
منذ عصور ونحن عاجزون عن الاحتفال بيوم وأسبوع وشهر ولادة هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي تدين له الإنسانية جمعاء، بما يتناسب مع قامته السامقة الرفيعة، بل لا يتم الاحتفال به بنسبة ما تتم من الاحتفالات لعظماء التاريخ الذين لا يستطيعون بلوغ كعبه صلى الله عليه وسلم. فلو رتبت الاحتفالات بمولده أياما وسنوات وعصورا لما تم الإيفاء بحقه. ولو أنشدنـا عشرات وآلاف القصائد والأناشيد كل ليلة لما أوفيناه حقه. ولكن انطلاقا من المثل الشعبي القائل: “السلطنة تليق بالسلطان، والتسول يليق بالمتسولين” نقول: “بدلا من عدم عمل أي شيء، فمن الأفضل عمل ما يمكننا عمله في الأقل”. لذا يجب ترتيب ندوات على غرار “ندوة الرسالة الخالدة”[1] على أن تعقد هذه الندوة كل سنة في بلد مختلف، وتخصيص فترة معينة من الزمن لها. وإذا كان من الممكن تخصيص العام القادم كـ(عام محمد صلى الله عليه وسلم) مع شعورنا بالخجل والحياء من بخلنا وعدم وفائنا المتجلي بتخصيص عام واحد فقط له.
الهوامش
[1] تعقد هذه الندوة سنويا في تركيا. (المترجم)
من موقع الأستاذ فتح الله كولن