تركيا- زمان عربي بقلم: أديب إبراهيم الدباغ
(قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ((المائدة:26).
هذا زمن التيه؛ يباب وقفرٌ وجدب، سرابات إثر سرابات.. أيام خاويات، وليال كالحات، ونجوم غائرات، ووجوه مصفدات، شاحبات حزينات، باكيات ساجيات.. ورياح سافيات عاصفات، وأزهار مصوّحات، وآمال محبطات، وأعشاب هشيمات.. وفي الروح جراحات داميات، وفي القلب زفرات وغصات، وفي العين أدمع حارقات كاويات، وفي الكبد أوجاع وآهات.. ونساء نائحات، كاسيات عاريات، وعيون شاخصات في أجسادهن غائصات.
ويومًا طريقًا أبصرتُ، فسررتُ ونحوه سريتُ، طريقًا للخروج حسبته حتى إذا جئته، وفيه مشيت، وشوطًا قطعت، ونصبًا لقيت، وتعبًا كابدتُ.. فإذا أنا، من حيث أتيت إليه رجعتُ، وكأنني ما مشيت ولا طريقًا سلكت، فمنه الذي هربت، من جديد إليه عدت.
نمشي، نهرول، نلهث، نبهر، وإلى كل ناعق نتسمع، نشرّق ونغرّب، يمينًا تارة وشمالاً أخرى، وفي مدائن الغربة نتسكع، نذل، نخضع، نركع، وعلى الأعتاب نتمرّغ، عسى باب من الغرب يُشرع، أو قبسة ضوء من الشرق تلمع.. نقف وننتظر، نصبر ونتصبّر، فما التقينا الذي من أجله خرجنا، بل انتكسنا وإلى التيه من جديد عدنا.
أنت يا سماوي الذهن، يا موّاجًا بمجرّات الأفكار، يا نافخ الحياة في الأموات، يا مفجّر الطاقات الهامدات، يا باعث الهمّات، يا مشعل الإرادات، يا جوهري النظرات، يا عميق الإدراكات.. متى تأتي، وسجن التيه تكسّر، وأغلاله تحطّم، وبالجموع تهتف: هلمّوا يا أبنائي، فقد وضح الطريق، واستبان الدرب، وأضاء السبيل، فمِن كوابيسكم استيقظوا، وتحفزوا، وإلى القرآن بادروا، فهو للموتى روح وقيام، ومن التيه منجاة، ولعمى العين ضياء، وللوهن قوة وانبعاث، ولقفر الزمان ريٌّ وشفاء، ولجدبه خضرة وخصب ومراع.
يا زمن التيه، يا رماد الأزمنة، يا ضلالات السنين، يا أغاليط الواهمين، يا نديم الذاهلين.. يا مديرًا للعقول، يا مدوّخًا للرؤوس، يا مسدل العتمات على منافذ العقول، يا مغشي العيون بسواد الظنون، يا مطفئ مصابيح الفهوم، يا حادي التائهين، يا هوة للضائعين، يا ملاذًا للهائمين، يا صدرًا للضجرين السئمين، الساخطين اليائسين المحبطين.
كن كما شئت، للتيه زمانًا، وللروح انهزامًا، وللعقل إضلالاً.. أما نحن فقد كسرنا قيدك، وتحررنا من غلك، وإلى خارجك خطونا؛ تفتحت منا العقول، واستحدّتْ منا الأبصار، والطريق اللاحبّ أبصرنا، ودروب الحق سلكنا، ومنارة الهدى قصدنا.. عُميانًا لن نكون، وضيّاعًا لن نظل، نحن الصح على أغاليطك، والحق على أباطيلك، والنور على ظلماتك، والهدى على ضلالاتك، والعقل على جنونك، والميزان على جنوحك، والإيمان على جحودك.
يا زمان التيه، أنت بدع بين الأزمنة، واستثناء بينها، ناموس الأزمان الأكبر خرقتَ، وعنه صددت وازدريت، نحن الشهود عليك، بنا أنت ابتُليت، ونحن بك ابتلينا، وامتحنَّا عسانا من هذه المحنة نخرج ونحن على إيماننا محافظون، وعلى طريق الله سائرون.
(*) كاتب وأديب عراقي.
من موقع مجلة حراء