علي بولاج
لماذا لا يعيش المسلمون اليوم وفق متطلبات دينهم مع أن لديهم أطروحات واقتراحات تشمل مناحي الحياة كلها، وبإمكانهم أن يتخذوا قرارات وينفذوها طبقاً للقيم الإسلامية بسهولة أحيانًا وببعض الجهد أحيانًا أخرى؟
لماذا عندما يصل المسلمون إلى سدة الحكم في كثير من البلدان يفشلون في تأسيس نظام اجتماعي – سياسي يكون أساسه العدل والحرية والأخلاق؟
لا شك في أن هذا الموضوع من الموضوعات التي يجب الوقوف عندها والتفكر فيها مليًا. باستثناء مجموعة من العبادات ذات الصلة بـ”الديانة” مثل الصلاة والصوم، والرموز المتعلقة بالشكل والظاهر، مثل الحجاب واللحية، والطقوس التي ليس لها أساس إسلامي أصلاً، كالليالي المقدسة وأسبوع المولد النبوي الشريف ونقل الأضرحة وما إلى ذلك، عندما يكون الحديث عن الجوانب المادية والاجتماعية والسياسية للحياة، نرى أن المسلمين يفقدون “حساسيتهم الإسلامية” تماماً. نجدهم يتمسكون بقوانين السوق الوحشية كأناس رأسماليين، ويتصارعون فيما بينهم بلا أخلاق، ويدمرون شعبًا بأكمله بالتدخّل في بلدهم دون أن تؤنّبهم ضمائرهم! ويمكننا أن نذكر مزيداً من الأمثلة في هذا الصدد.
وإذا ما سألتم شخصية منتسبة إلى جماعة النور في تركيا عن أسباب ذلك فستردّ عليك بأن سبب ذلك بسيط: أن هذا هو مقتضى “الإسلاموية أو الإسلام السياسي” أصلاً! غير أن في هذا الحكم نقطتين لا تتوافقان مع الحقيقة وهما:
1- إذا تولَّى البعض تنظيم شؤون الحكم، أي أقدم على تقاسُم الموارد البيروقراطية والمادية، باسم الإسلاموية ولم يحكموا بالعدل، تجب مساءلتهم ومحاكمتهم على ضوء الأحكام الإسلامية. لكن أحدًا من المنتسبين إلى جماعة النور لا يفعل ذلك، بل يكتفي بانتقاد أي شخص إسلامي من خلال ادعائه وهويته “الإسلامية”.
2- إذا لم يتدخل المسلمون في السياسة، أي في شؤون تنظيم الحياة العامة والاجتماعية، فهذا يعني أنهم سيتركون المجالات الحيوية – بالضرورة – إلى العلمانيين. وحينها يجب طرح سؤال مفاده: هل تؤمنون بأن العلمانيين سيتصرفون بعدلٍ وسيشركون الجميع بالقدر الذي يستحقونه في إدارة المجالات الاجتماعية والعامة؟
نعرف أنه لن يثق أحد في تركيا بالعلمانيين بسبب حقبة الحزب الواحد التي استمرت لأكثر من ربع قرن (1923 – 1950) والسياسات التي انتهجتها أحزاب يمين ويسار الوسط عندما كانت في السلطة. كما ألحقوا الأذى بملايين المتديّنين بسبب الحجاب.
بقي أن نقول إنه في حالة عدم تطبيق أحكام الدين الخاصة بتنظيم الحياة العامة والاجتماعية، يكون قد أُلغي أهم عمودين في الإسلام؛ ألا وهما المعاملات والعقوبات. وهذا لا يحمل أي معنى سوى “علمنة” الدين من جانب الأشخاص المتديّنين أنفسهم.
إن التجربة التي نمر بها تبرهن لنا بما لا يدع مكانًا للشك على أنه لا فرق على أرض الواقع بين الإسلامي السياسي وبين المنتسب إلى جماعة النور المتموضع في صف الإسلام الاجتماعي المبتعِد عن السياسة. فكلا الطرفين لا يأخذان أحكام الدين المتعلقة بالحياة العامة والاجتماعية كمرجعية ولا يطبقانها بسبب حجج وأسباب مختلفة. يقول أحدهما: “لا يمكن تنفيذ هذا الأمر من خلال السياسة”، وأما الآخر فعاجز عن الخروج ولو قليلًا عن إطار” الديانة والطقوس”. وهنا نحن أمام احتمالين:
أ – لا يؤمن المسلمون، بغض النظر عن توجهاتهم، بأن دينهم قادر على إدارة هذا العالم من خلال العدل. فهم لا يتنازلون عن دينهم، لكن عندما يكون الأمر متعلقاً بتحديد السياسات الإدارية والسياسية والاقتصادية والتجارية والإقليمية يفشلون في إيجاد أحكام مطمئِنة. فإذا كان الوضع كذلك، فهذا يعني أن المسلمين الاجتماعيين والسياسيين قد “تعلمنوا” في عقولهم الباطنة منذ وقت بعيد وهم لا يدرون. حتى أن بعض أتباع هذا التيار في تركيا بدؤوا يلمحون إلى أن طريق النجاة في العلمانية انطلاقًا من الصراع الدائر في آخر عامين منذ الكشف عن فضيحة الفساد والرشوة.
هناك نقطة واحدة يمكن أن نعذر بها المسلم الذي يفكر بهذه الطريقة، ألا وهي أنه ليس هناك اجتهادات كافية بشأن العديد من القضايا، وأن كتب الفقه دُونت قبل 1200 عام. غير أن المشكلة لا تطرح حتى كـ”قضية اجتهادية”، فلا أحد يبذل أدنى جهد لحل هذه المشكلة.
ب – في الواقع أن المسلمين ليسوا منزعجين بشكل كبير من نظام حكم غير عادل. فعندما يظلَمون يصرخون بأعلى صوتهم، لكن عندما يصلون إلى السلطة لا يتورّعون عن ظلم الآخرين. ولهذا السبب فربما يكونون متبلّدي الحسّ بسهولة إزاء الظلم والقومية والدولتية والعسكرية والاستعمارية، ومغرمين بحياة القصور والظهور والإسراف والترف وتفسخ المجتمع وقطع أواصر الأسرة وفضائح الفساد والرشوة وانعدام الأخلاق في المجتمع. ولهذا أيضًا لا يستنكفون حتى عن التعاون مع الانقلابيين إن لزم الأمر.
إن هذه القضية هي القضية التي كانت موجودة كذلك في القرن الأول للإسلام عندما تشكَّلت المذاهب المختلفة. فقدت نوقشت كثيرًا وقتها، ويجب مناقشتها كذلك اليوم.
جريدة زمان 9/4/2015