عبد الحميد بيليجي
إن تونس التي بدأت فيها موجات الربيع العربي من الدول العربية النادرة التي نجحت في توظيف تلك الموجات في إحداث تغيير سليم في البلاد وحالت دون المرور بعاصفة الدمار. فالسلوك السليم للأطراف السياسية، لا سيما لحركة النهضة التي فازت في الانتخابات الأولى قد حال دون انجراف البلاد في الفوضى التي سادت سوريا وليبيا ومصر واليمن.
وبعد سنة من الثورة زرنا تونس برفقة الرئيس السابق عبد الله جول في مارس 2012، وكانت تلك الزيارة قد زرعت فينا الآمال. وكان اليمينيون واليساريون والإسلاميون يتصرفون بشكل بنَّاء. ولم يحاول أي طرف فرض رأيه على الآخر، بما في ذلك حركة النهضة. وقد فضل زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي الذي كان في المنفى منذ سنوات أن ينسحب من كل المناصب مع أنه كان بإمكانه الحصول على أعلى المناصب بعد النجاح في الانتخابات، بل إنه أتى باليساري المعروف بدفاعه عن حقوق الإنسان المنصف المرزوقي ليتسلم رئاسة الجمهورية.
إن المجلس التأسيسي التونسي الذي ضمّ جميع أطياف الدولة مثل المجلس التركي الأول الذي قاد حرب الاستقلال كان منكبّاً على كتابة الدستور. وكان أمامه مهلة سنة واحدة فقط. حيث اجتمع الليبراليون والإسلاميون واليمينيون واليساريون تحت سقف واحد، وكانت النائبات المحجبات إلى جانب السافرات وأصحاب الطرابيش الملتحين إلى جانب أصحاب ربطات العنق حليقي اللحى.
وفي ذلك الوقت كانت اللجنة البرلمانية التركية المشكلة من ممثلي 4 أحزاب لصياغة دستور جديد للبلاد أيضاً قد بدأت أعمالها في أنقرة. ولكن هذه الأعمال كانت عبثا وبمثابة “ولادة عقيمة” من الدقيقة الأولى بسبب مبدأ ضرورة إجماع جميع ممثلي الأحزاب على النص. ولإعجابي بالجو السياسي الإيجابي في تونس كان عنوان مقالتي التي كتبتها هناك “تونس ستكون نموذجاً لتركيا”. وهذا ما حدث بالفعل، فكما كان متوقعا، فإن محاولة صياغة الدستور المدني بقيادة حزب العدالة والتنمية في تركيا باءت بالفشل بسبب إخفاق السياسيين في تحقيق الوفاق والطريقة المضحكة التي تعمل بها اللجنة والاقتراحات الراديكالية لأردوغان كالنظام الرئاسي. في حين أن التجربة التونسية نجحت في عهد الغنوشي الذي يشترك في الأساس مع أردوغان في الجذور الإسلامية السياسية. والنتيجة هي أن التجربة الديمقراطية في تونس والتي لم تبلغ عامها الثالث أو الرابع بعد تمخضت عن سنّ دستور مدني في البلاد. إلا أن تركيا لا يزال يحكمها الدستور الانقلابي، مع أن حزب العدالة والتنمية أمضى أكثر من 12 عاماً في حكم البلاد. وفوق ذلك نجحت تونس في تغيير الحكومة من خلال انتخابات طبيعية رغم أن التطورات في اثنتين من جيرانها ليبيا ومصر كانت سيئة جداً. لم تقد حركة النهضة البلاد إلى الدمار، وكذلك احتلت مكانة كمكانة العدالة والتنمية في عهد ازدهاره السابق.
وقد تأثرت بتواضع الغنوشي وانفتاحه على الآراء والتوجهات الأخرى، وهو الذي لعب دوراً بارزاً في تطور تونس وحركة النهضة. وكان مصيباً في مقولته التي ذكرها في أحد حواراته خلال هذا الأسبوع: “حركة النهضة دحضت مقولة (إن إيمان الإسلاميين بالديمقراطية ينتهي عند وصولهم إلى السلطة)، إذ سلمنا السلطة وخرجنا من الحكومة عندما اقتضت مصلحة الوطن ذلك”.
والصورة التي عرضتها أعلاه تؤكد صحة هذا الكلام. وحول ديمقراطية الإسلاميين يقال دوما في أدبيات علم السياسة: “إنهم يستمرون بالحديث عن قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ما داموا في المعارضة، ولكنهم ما إن يصلوا إلى السلطة إما لا يتركونها عبر انتخابات نزيهة أو يعتبرون الديمقراطية عبارة عن صناديق الاقتراع فحسب، ولا يعترفون بوجود المعارضة. ذلك لأنهم يعتبرون الديمقراطية مجرد وسيلة وأداة. وثمة خياران أمام المعارضة: إما الطاعة وإما الاتهام بالخيانة”.
وقد أبطل الغنوشي من خلال السياسة التي اتبعها هذه النظرية، لكن هذا الموقف لا يعني أن كل الإسلاميين قد اجتازوا اختبار الديمقراطية بنجاح. بل على العكس فحزب العدالة والتنمية وزعيمه أردوغان الذي كان في طليعة الانفتاحات الديمقراطية ثم بدأ يسير على نهج الاستبداد في الآونة الأخيرة، قد أثبت صحة كل الشكوك التي تحوم حول السياسة ذات الأساس الإسلامي. فهو الآن يمارس الضغوط على الأفكار الأخرى مع أنه سبق أن تعرض للضغوط ذاتها بسبب أفكاره.
ويمارس كل أساليب النظام القديم كالعتبة الانتخابية (الحد الأدنى لدخول البرلمان) والكتاب الأحمر (الدستور الخفي لتركيا) وهيئة التعليم العالي والعمل على استقطاب الشعب من خلال الأخبار الكاذبة التي ينشرها الإعلام الموالي الموجه، واستغلال قوة الدولة لتوجيه دفة السياسة وتأديب دنيا الأعمال والمجتمع المدني؛ مع أنه كان ممن تعرض للظلم جراء الانقلابات في السابق. كما أنهم أعلنوا أن التصويت لحزب العدالة والتنمية فرض عين. هذا إضافة إلى أن الإسراف والتبذير وعمليات الفساد والرشوة أصبحت معروفة للجميع. كما أن رؤساء جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك وزعماء أحزاب المعارضة قد تم وصفهم بالخيانة. بل إنهم يسحقون حتى التجار الصغار من خلال إغراقهم بالضرائب، ويتعاملون مع الأحزاب بواسطة جهاز المخابرات، وجعلوا مؤسسات الدولة عبارة عن امتداد للحزب، وعرقلوا استفادة المواطنين بالتساوي من تلك الدوائر. وأنا حين كتبتُ هذه السطور كان تم حظر التويتر والفيس بوك في تركيا مثلما يكون في الدول الاستبدادية.
وكما أن الغنوشي دحض الشبهات التي تحوم حول ديمقراطية الإسلام السياسي، كذلك فإن أردوغان وحزبه قد أثبت صحة تلك الشكوك من خلال إجراءاتهما وممارساتهما. حيث إنه خدع كل من دعمه آملاً فيه الخير، ليس في تركيا فقط بل في العالم بأسره؟
أليس ذلك مؤسفاً؟