سلجوق جولطاشلي
انقطعت الكهرباء قبل أيام قليلة في عموم تركيا، وبحسب ما نشرته وسائل الإعلام فإن مدينة وان الواقعة أقصى شرق البلاد لم تشهد مشكلة في التيار الكهربائي لأنها تحصل على طاقتها من الجارة إيران.
بدأ سؤال: “ماذا حدث لتركيا التي كانت نجمًا متلألئاً في سماء المنطقة ومصدر إلهام للعرب وصاحبة اقتصاد ينمو بسرعة حتى سنوات قليلة مضت؟” ينتشر بسرعة البرق مرة ثانية في كواليس بروكسل التي يوجد بها من يؤمن إيمانًا جازمًا بأن الانتخابات المحلية التي جرت في تركيا نهاية مارس/ آذار 2014 شهدت وقائع تحايل وخداع، كما أن هناك من يعتبر أن انقطاع التيار الكهربائي عن معظم المدن التركية يعدّنوعًا من أنواع “البروفة” للانتخابات البرلمانية التي ستجرى يوم 7 يونيو/ حزيران المقبل. كما أن هناك من يدافع عن الفكرة التي تقول إن حكومة حزب العدالة والتنمية لم تعد تستطيع فعل أي شيء كما يجب خلال الأعوام القليلة الماضية بحجة “مكافحة الكيان الموازي”، ولهذا يجب ألا ينظَر إلى هذا الانقطاع على أنه حَدَث مفاجئ. أما النقطة التي يتفق بشأنها الجميع فهي أن “تركيا الجديدة” التي يتحدث عنها رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان ورئيس وزرائه أحمد داود أوغلو هي نوع من أنواع “المزاح”. وللأسف فهناك كثيرون في بروكسل يستهزؤون بـ”تركيا الجديدة”.
بينما كنت أتصفح مواقع الإنترنت لأرى أين تعمل الكهرباء وأين تنقطع في تركيا، جاءتني رسالة إلكترونية من مسؤول أوروبي رفيع المستوى يقول فيها: “ما فعله الكيان الموازي لشبكة الكهرباء في تركيا لم يكن ظريفًا!”، وبجوار هذه العبارة إشارة ضحكة كبيرة. فسألته: “هل نحن كذلك مَن فعل هذا؟”، فرد مستهزئاً: “ومن غيركم؟!”. أنهينا حوارنا بالتوافق حول أن الإعلام الموالي لحكومة حزب العدالة والتنمية لن يقف صامتًا أمام هذا الأمر.
وبالفعل في اليوم التالي لهذه “المضايقات” فكّت صحيفة” يني عقد” شفرة هذا للغز وقالت إن “الكيان الموازي” هو الذي يقف وراء عملية قطع التيار الكهربائي عن تركيا، وفي اليوم الذي يليه توصلت جريدة” ستار” إلى النتيجة ذاتها! أتحدث عن الأخبار لأقول إن صديقي الأوروبي كان محقًا فيما قال؛ إذ قال: “أنتم مصدر جميع المساوئ”، ويرد علي بإشارة الضحك دون أن يتعجب من هذه الأخبار التي نشرها الإعلام الموالي لحكومة داود أوغلو.
في الوقت الذي أصبحتُ فيه هدفًا للنكات من قبيل “أحدث سوءة ترتكبها الدولة الموازية”، وصلتني أخبار تفيد بأن داود أوغلو اتهم وسائل الإعلام التي نجحت في البقاء مستقلة “بانعدام الأخلاق” وطلب منها أن تقوم بـ”نقد ذاتي”.
غضب داود أوغلو من الصحف التي طبعت صور المدعي العام الشهيد سليم كيراز الذي احتجزه إرهابيان في مكتبه كرهينة قبل قتله، وأعطى لهم درسًا في الأخلاق؛ إذ قال: “كنا نريد وننتظر أن يبدي السياسيون ووسائل الإعلام الموقف الحكيم ذاته. ومع أن قسماً من وسائل الإعلام شاركت هذا الألم مع الجمهور، إلا أن قسماً آخر منها نشرت الصور التي تظهر ذلك الإرهابي وهو يصوب سلاحه صوب الشهيد كيراز بينما لا تزال عائلة الشهيد تعاني جراء فقدانه. وهذا يظهر انعدام أخلاقيات وصفات المهنة لدى تلك الصحف. أدعو كل وسائل الإعلام هذه لتوجيه نقد ذاتي لنفسها، فلو كان هذا الشهيد هو أحد من ذويكم، فكروا ماذا كان سيراودكم من مشاعر؟”.
وأفكر كيف أنتج داود أوغلو هذا المفهوم الأخلاقي “اللافت” خلال فترة قصيرة في ظل مشاعر الغضب والحزن والألم التي سيطرت عليه أثناء خطابه. ألا يهمّ داودأوغلو لهجة “انعدام الأخلاق” التي يهيم فيها أناس “متدينون محافظون”، والإعلامُ الموالي المتغذي على إمكانيات الدولة منذ الكشف عن فضائح الفساد والرشوة في عام 2013، فيبادر إلى لصق هذه الصفة إلى الصحف التي تكافح من أجل الحرية والاستقلال.
وطالما يتحدث داود أوغلو عن انعدام الأخلاق، إذن نتساءل:
ما نوع أخلاق رئيس الوزراء السابق أردوغان الذي قال في الأكاديمية العسكرية” لقد خُدعنا” بعد أن ظهرت وقائع الفساد إلى العلن، وهو الذي سبق أن أكد عندما نقلوا له معلومات عن مخططات الانقلاب العسكري ضد حكومته “لو تعلمون ما أعلم لجافى النوم جفونكم”؟
وما نوع أخلاقكم يا سيد داود أوغلو عندما وعدتم بـ”قطع أيدي الفاسدين” و”تنفيذ حزمة الشفافية”، و”تجنّب سنّ حزمة قوانين جديدة”، ثم عندما وبّخكم رئيس الجمهورية نسيتم كل وعودكم وواصلتم البقاء في منصبكم كأن شيئًا لم يحدث؟
وما نوع أخلاق لجوءِ مَن يزعمون أنهم لا يشكّون في وضوئهم وأن معدتهم لا تؤلمهم لأنهم لا يأكلون الطعام الحامض إلى تغيير المحاكم والقضاة والمدعين العامين من أجل غلق ملفات الفساد؟
وما نوع أخلاق التظاهر بـ”العثمانية” الرخيصة، ثم تقديمِ مشاريع التخطيط العمراني الخاصة بمدينتي إسطنبول وبورصا إلى المقاولين مقابل ثمن بخس ليغيروا ويشوهوا صورتهما المعروفة منذ قرون طويلة؟
وما نوع أخلاق وسائل الإعلام التي تسيطرون عليها والتي تنشر أبشع الأكاذيب والافتراءات بحق أناس أبرياء مع أنكم من كنتم تزعمون أنكم تعلمتم الكثير مما عانيتموه مما تعرضت له الصحافة إبان الانقلاب العسكري في عام 1997، ولكنكم عندما وصلتم إلى السلطة أنشأتم إعلامًا لايقل في الفظاعة عن ذلك الإعلام؟
يا سيد أحمد داود أوغلو، ما نوع أخلاق مدْح الصحف التي نشرت عناوين من قبل “متظاهرو متنزه جيزي بارك قتلوا النائب العام” عقب استشهاد النائب العام كيراز؟
وما نوع أخلاق استصدار إذن بشكل عاجل من البرلمان لبلال نجل الرئيس أردوغان يسمح له بتأسيس جامعة في الليلة ذاتها التي استشهد فيها النائب العام؟
إن هذه الجملة التي قالها داود أوغلو تحمل أهمية بالغة: “عليكم بالنقد الذاتي لأنفسكم، فكروا قليلًا لو كان أحد من ذويكم مكان هذا الشهيد فماذا كنتم ستشعرون به؟”.
إذن تقول لكم: ضعوا أنفسكم مكان الأستاذ فتح الله كولن وحركة الخدمة، فكروا في عائلة الفتى بركين إلوان، لو كانت وسائل الإعلام الواقعة تحت سيطرة الحكومة وجهت هذه الإساءة إلى أزواجكم وآبائكم وأمهاتكم وعائلاتكم وأحبائكم، فماذا كنتم ستشعرون يا ترى؟ لا تخجلوا، فعليكم بالنقد الذاتي الذي توصون الآخرين به ليل نهار .
أتذكر ما قلتموه إلى أردال جوفان: “أي سياسي يتقرب إلى العلم والعلماء يرتفع قدره، وأي عالم يتقرب إلى السياسة والسياسيين ينخفض شأنه”.