أكرم دومانلي
صادفتُ في الأيام القليلة الماضية أحد أبرز رجال الأعمال في تركيا في مكان مزدحم. فلو كان تجاهلني لما كنت لألومه، ولكنت عزيت ذلك إلى الخوف الذي تسبب به الظلم المحتمي بدرع الدولة. لكنه لم يفعل ذلك، بل جاء واحتضنني، وقال هذه العبارات التي لن أنساها أبدًا ما حييت: “لا أقبل أبدًا ما يرتكب ضدكم، لكن أريد أن تعرفوا أن هذه الضغوط تمارس على الجميع. فنحن نخاف حتى داخل بيوتنا. وعندما أريد أن أتحدث عن شؤون بلادنا مع أبنائي نترك هواتفنا في غرفة الجلوس وننزل إلى الطابق السفلي. ونحاول هناك أيضا أن نتحدث بصوت منخفض”.
نظرت إلى وجهه والدهشة تتملّكني، فالقلق الذي يشعر به رجال أعمال مهمون ممن كانوا يدعمون حزب العدالة والتنمية في وقت من الأوقات تعكس أمامنا صورة تنفطر لها القلوب، وتبرز أمامنا الحالة التي أضحت عليها تركيا.
يعرف مَن دعموا حزب العدالة والتنمية في فترة من الفترات دعمًا لإصلاحاته الاقتصادية والديمقراطية كيف تجري ممارسة القمع ضد أدنى اعتراض من خلال حملات التفتيش المالي والحملات التي تشنها الشرطة والتصنيف حسب الانتماء من قبل أجهزة الأمن والمخابرات. فهل يمكن أن تستمر هذه الضغوط المخيفة إلى ما لا نهاية؟
تذكرت الواقعة التي نقلتها أعلاه عندها علمت أن كمال كيليتشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، التقى ببعض رجال الأعمال. وبحسب ما نقلته وسائل الإعلام فإن معظم رجال الأعمال أولئك كانت لهم علاقة بحزب العدالة والتنمية؛ إذ قالوا لكيليتشدار أوغلو إنهم دعموا الحزب في فترة من الفترات، لكنهم يحملون مخاوف كبيرة إزاءه في الوقت الراهن. وطلبوا منه أن يبقى اجتماعهم به سريًا، وهذا بالفعل ما حدث، حتى تسربت هذه الأخبار إلى الإعلام. وعندما سمعت الواقعة، قال نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري جورسَل تكين إن طلب بقاء الاجتماع سريًا جاء من رجال الأعمال، وإن حزبه احترم هذه الرغبة. فماذا يعني طلب السرية هذا؟ يعلم الجميع أن حكومة العدالة والتنمية تستغل إمكانات الدولة بشكل شرس لممارسة الضغوط على من لا يفكرون مثلها. حسنًا، إلى متى سيستمر هذا الوضع؟
انفجر نائب رئيس الوزراء بولنت آرينتش واعترض على الصلاحيات التي يستغلها رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان في حين أنها ليس منصوصًا عليها في الدستور. وكان محقًا. فالكلمات التي كان يجب أن يقولها أحمد داود أوغلو بصفته رئيس الوزراء قالها آرينتش الواحدة تلو الأخرى. ولا أعتقد أنه فعل ذلك حتى تكون مادة للجدل، ذلك أن كل عمل يقوم به أردوغان من خلال صلاحية ليست من حقه تضيق الخناق على الحكومة. أما مواقفه التي ظهر عليه مؤخرًا أوصلت قضية حساسة كـ”مفاوضات السلام” إلى طريق مسدود؛ إذ أصبحت القضية تسير نحو تعقيدات اجتماعية…
في الوقت الذي كان ينتظر فيه أن يأتي الجواب على آرينتش من القصر الرئاسي، جاء من رئيس بلدية أنقرة مليح جوكتشيك الذي استغرق في الاتهام عبر تويتر واسهدف حتى أسرة آرينتش وطرح اتهام الانتساب إلى “الكيان الموازي”. ومعروف للجميع أنه عندما يقال” الكيان الموازي” يفقد البعض القدرة على التفكير بالكامل، فيا له من أمر مضحك…
فتح آرينتش فمه للرد على جوكتشيك قائلا بأنه دنيئ، وواصل كلامه باتهامه بالمحاباة لجهة معينة وبيع أنقرة قطعة قطعة. والأنكى من ذلك أنه قال إنه سيتحدث بمائة ملف يوم 8 يونيو/ حزيران المقبل (أي بعد يوم واحد من الانتخابات البرلمانية المقبلة). الوضع خطير للغاية!
هذا يعني أن هناك وقائع فساد كبيرة في أنقرة، وآرينتش كان يعرف ذلك في أثناء الانتخابات المحلية التي أجريت عامي 2009 و2013، وقد اعترض على ترشح جوكتشيك. هل في الوقت الذي يعرف فيه آرينتش هذه الحقائق ألا يعرفها الآخرون؟ ولماذا سكتوا ولا يزالون ساكتين؟ هذا فضلًا عن أن هذا الموقف ليس محدودًا بأنقرة فقط، فالتصويت على إحالة الوزراء المتهمين في قضية الفساد إلى المحكمة العليا في البرلمان كان ناقصًا بواقع 50 صوتًا من حزب العدالة والتنمية الحاكم. وكان هذا الموقف المتعلق بالتصويت السري يعكس بنسبة معينة الانزعاج الذي يشعر به أعضاء الحزب الحاكم بشأن فضيحة الفساد. فهل لايعرف الناس الحقيقة حتى وإن حاول البعض غلق ملف التحقيق في فضيحة الفساد بأسرع طريقة؟ وإلى أي مدى يمكن إخفاء الحقائق في وقت ظهر فيه كل شيء بهذا الوضوح؟
إذا تناولنا أي موضوع سنواجه المشهد ذاته، فتركيا تسير بخطى ثابتة نحو الفشل. تجد أن موضوع سرقة أسئلة اختبارات تعيين موظفي القطاع العام قبل 5 سنوات قد جرى التستر عليها من خلال حاجز الدفاع المتعلق بالحكومة، لتنتهي الوتيرة القانونية للقضية. وبالمناسبة ليس هناك أي احتمال لحصول المتهمين بسرقة الأسئلة على مصلحة غير شرعية لأنه تم إلغاء ذلك الاختبار. لكنهم الآن يؤلفون سيناريو من خلال ذلك الاختبار لسبب واحد فقط وهو محاولة تشويه صورة جماعة الخدمة. يستغلون شخصا يدعى باكي س. كمعترف ويضغطون عليه من أجل أن يختلق الافتراءات في حين أنه ظهر في وقت سابق على التليفزيون الرسمي (تي آر تي) وقال إنه لم يحصل على أسئلة الاختبار، وإنه حصل على الدرجة التي نالها بجهده وعرق جبينه. هذا فضلًا عن تغيير القاضي قبل أسبوعين وتعيين قاض جديد يصدر قرارات الاعتقال. فانظروا إلى تغييرات القضاة ومدعي العموم التي شهدتها تركيا خلال الأشهر القليلة الماضية بالله عليكم!
المحاكم الظالمة، الدعاوى الجاهزة، القضاة ومدعو العموم الذين تدور شكوك قوية حولهم إن كانوا مكلفين بمهمة خاصة أم لا… أشعر بالشغف لمعرفة من أين حصل أولئك الذين أعلنوا الأستاذ فتح الله كولن المتهم الأول في ملف اختبارات تعيين موظفي القطاع العام على شهادات التخرج في القانون. فهل يمكن لهذه الوضعية الخطيرة أن تستمر إلى يوم القيامة؟ لا بكل تأكيد!
هل تختلف الوضعية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية؟ كانت تركيا تنتهج سياسة تستند إلى مبدأ “إنهاء كل المشاكل مع جيرانها” حتى وقت قريب، غير أن الوضعية في أنقرة تحولت في الوقت الراهن إلى “وجود مشاكل مع جيرانها جميعا”. فتحولت سوريا إلى مستنقع، وانقطعت العلاقات مع مصر… وعندما تفاقمت الأوضاع في اليمن حاول أردوغان أن يحجز لنفسه مقعدًا إلى جانب السعودية، وبدأ يهاجم إيران التي لم تتأخر في الرد بشكل قاس. فما هو السبب الذي جرّأ إيران إلى هذا الحد ودفعها حتى إلى تهديد تركيا؟ عجْز مَن أدى إلى هذه الوضعية الصعبة؟
لقد دخلت تركيا طريقًا خطأ في كل المجالات (الاقتصاد، السياسة، السياسة الخارجية، الحياة الاجتماعية). وللأسف الشديد أنها تصر على ارتكاب الأخطاء بدلًا من أن تستخرج الدروس والعبر منها. ولا شك في أن هذا التحدي لن يضر بالسياسيين “العنيدين” وحدهم، بل سيضر بتركيا كذلك…