علي بولاج
انطلاقًا من الحكم الذي يقول إن “الله خالق كل شيء”، فإذا كان العبد لا يستطيع أن يخلق شيئًا وكانت الأفعال بالمعنى الطبيعي والبشري ومراتب الوجود والعلاقات بين المراتب ونظام الطبيعة وعلاقات الإنسان تدخل في نطاق الأفعال التي خلقها الله، فهذا يعني أن فرقة الجبرية كانت على حق.
ذلك أن خالق كل هذه الأشياء هو الله، فلا يمكننا الحديث هنا عن حرية الإنسان. وإذا كان الوضع كذلك، فلماذا يحاسب الله الإنسان على بعض أفعاله؟ فمن المسؤول عن أي جريمة ترتكَب؟ وهل يكون القاتل في حكم الآلة التي استخدمها في الجريمة (سكين أو مسدس أو ما إلى ذلك)؟ أي هل أن القاتل الذي استخدم السكين يساوي السكين بصفتهما آلتين منزوعتي الإرادة؟
كانت فرقة القدرية تدافع عن حرية الإنسان، لكن المشاكل لم تكن تنتهي. فإذا كان الله هو خالق كل شيء – وهو بالفعل كذلك – فكيف يمكن للإنسان أن يخلق فعلًا مخالفًا لإرادة الله؟ أم أن الله يريد أن يرتكب الإنسان أفعالًا سيئة؟ هل أراد الله أن يرتكب الإنسان جريمة أو سرقة أو فساد حتى يقدم الإنسان على ارتكاب هذه الأفعال المشينة؟
وإن كانت فرقتا الماتريدية والأشعرية لم تتوصلا إلى الحل النهائي لهذه المشكلة التي تبدو معقدة للغاية، فإنهما أفصحتا عن توضيحات يمكن أن نعتبرها معقولة. فكر الماتريدي أن هناك جهتين في الخلق؛ إحداهما خلق الله لفعل من الأفعال، ومنحه الإنسان القدرة على الخلق. فالإنسان كائن قادر على الفعل. “وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا” (آل عمران – 97)، فهذه الآية تعبر عن القدرة والاستطاعة. فالحج يلزمه القدرة البدنية والمالية.
يستخدم الإنسان القوة الممنوحة له تقريبًا في كل عمل يقوم به، لكن هذا لا يشبه شيئًا يخلقه الله من العدم. فالإنسان لايستطيع أن يخلق شيئًا من العدم، بل إنه يستخدم ما خلقه الله، ويغير شكله. وكما يقول أرسطو فإن الإنسان “يصور المادة”. وبفضل هذا يكون له تأثير من خلال أفعاله. ولنفترض أن أمامنا جذع شجرة، فالإنسان يمكن أن ينتج منه قطعة أثاث أو منضدة أو باب! فهذا هو كسب الإنسان.
ترى الماتريدية أن الإنسان لايخلق، لكنه يكسب. وبتعبير آخر، أننا كبشر نكسب نتائج أفعالنا. فهذا هو الإطار الذي نحن مسؤولون عنه.
يرى فلاسفة المدرسة المشّائية أن الحرية هي صفة خاصة بالنفس، ولها عدة اشتقاقات. فعلى سبيل المثال فإن الفضيلة المرتبطة بالعفة هي حرية الكسب من الطرق المناسبة والإنفاق في الطرق المحمودة. ووفق هذا الرأي فإن من لا يربح من طرق مشروعة ولا ينفق في طرق مشروعة لا يكون حرًا بالمعنى الحقيقي، لأنه ارتبط بالحرام وأساء استغلال حريته. فالإنسان الحر مكلف بحماية نفسه وشخصيته في مواجهة حتى خزائن الملوك. فالمال المكتسب من طرق غير مشروعة والمنفق في طرق غير مشروعة لا يعتبر استخدامًا لحرية كسب المال أو مكسبًا مستحقًا. ولأن الرشوة والفساد والاستغلال والاعتداء على حقوق الآخرين والسوق السوداء والفوائد الربوية وإساءة استغلال القوة والإمكانيات هي استخدام خاطئ وباطل، فليس هناك أي تعامل يمكن أن يعترف لذلك بحق الحرية. وكما أن الكسب غير المشروع يلغي الحرية، فإنه يفقِد مَن اختار هذا الطريق للكسب كفاءَته.
أي أن الذي يستخدم هبة الله باستغلال القدرة في الطرق غير المشروعة يعفى من وظيفته أو مهمته.
يرى ابن سينا أن الحرية هي قيمة علوية للنفس، أما الفارابي فيعتبرها كرمًا. فالحرية تحمل المعنى نفسه مع الكرم، وهي تتحقق في نقطة مشتركة بين مشاعر الغرور والدونية. ولا يمكن للإنسان المغرور أن يكون حرًا، كما لا يمكن للإنسان الذي لديه شعور بالدونية أن يكون حرًا. فالحرية اعتدال، والاعتدال يكون بين نقيضين.
يقول الفارابي إن الحرية مهارة الاختيار مع التفريق بين ما هو جيد وما هو سيئ دون التعلق بجاذبية المتع في المتعة التي توفرها أفعال الشخص له. ويتطلب هذا الاختيار التفكير بشكل سليم والتحرك في هذا الاتجاه. ولهذا ينبغي للإنسان الحر أن يظهِر إرادته، فهو الإنسان الذي يمتلك هذه الصفات.
من الأشياء المهمة في هذه النقطة أننا نجد أتباع المدرسة المشّائية يبنون علاقة بين الحرية والفضيلة. ففي مدينة الحرية والديمقراطية، التي تعتبر واحدة من تصنيف المدن الثلاث التي أشار إليها الفارابي، تجد أن الحريات تلعب دورًا منحطًا إذا لم تدعمها الفضائل.
يوجد حاكم طاغية يحكم المدينة المستبدة، وحاكم صاحب فضيلة يحكم المدينة الفاضلة، لكن بما أن المدينة الحرة والديمقراطية تكون منفتحة غالبًا على الذنوب والفضائل، فإن سوء أخلاق حكامها وجرائمهم تصبح هي أخلاق عامة الشعب. وبهذه الطريقة تصير الديمقراطية هي نظام الحكام المجرمين الذين كسبوا إعجاب الجماهير. فيكون الحاكم والشعب مجرمين في المدينة الديمقراطية المنفتحة على الجريمة والذنوب.