ممتاز ار توركونه
المشكلة لا تكمن في صراع النفسيات المغرورة، كما أنها ليست ذات علاقة بالصفات الشخصية والأشخاص مثل حرص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على السلطة أو الثقل النوعي لنائب رئيس الوزراء بولنت آرينتش أو صبر رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو وسكونه أو دهاء رئيس بلدية أنقرة مليح جوكتشيك. فكل واحد منهم يقوم بما يجب عليه فعله، أي ما تلزِمه السياسة فعله، وذلك بالنسبة لهم بمثابة قدر غير مرغوب فيه بسبب الموقع الذي يشغله كل واحد منهم.
والنتيجة هي أن جناح الحزب الحاكم في تركيا يُسحَق بجميع عناصره بين تروس النظام السياسي التي لم يعد الحزب الحاكم قادرا على إدارتها والسيطرة عليها، ولا يستطيع أن يجد لنفسه مخرجًا للنجاة من هذا المصير.
كانت الأزمة موجودة بالفعل بصفتها أزمة نظام ناتجة عن سوء توزيع الأدوار وبطريقة غير متناسبة وكذلك عن التطورات التي جرى تصورها بشكل خاطئ. واليوم نشهد تعمق جذور هذه الأزمة وتحولها إلى طريق مسدود جراء اقتراب الانتخابات البرلمانية، فالأزمة تتفاقم بسبب الانتخابات التي على الأبواب.
لاشك في أن الذين لاينظرون إلى هذه الأزمة على أنها بدأت في أساسها بأسباب تتعلق بالأشخاص لكن صار حلها مستحيلا بجهود فردية في المرحلة التي وصلت إليها مخطئون.
يتولى أعلى منصب في النظام السياسي في تركيا حاليا، رئيس جمهورية لا يراعي حدوده المنصوص عليها في الدستور. فالحزب الحاكم وكأنه مِلك شخصي له ومسجل باسمه الشخصي في السجلات العقارية. وهو الزعيم الذي لا نقاش عليه وقائد الحركة السياسية في تركيا بماضيها ومستقبلها.
على أية حال، لم يكن خلفاء أردوغان يتوقعون منه أن يكون رئيسًا للجمهورية يزرع الورد في حديقة القصر في أنقرة، ويقبل ملفات السفراء الجدد، ويخرج أمام الشعب بين الحين والآخر، ويستريح من تعب مسيرته في مضمار السياسة المرهقة ليعيش في حالة من الرفاهية والأبهة. حسنًا، ماذا سيحدث ما دام الوضع كذلك؟
لنشرح هذه الحالة من خلال فرضية بعيدة عن التحقق: لو كان أردوغان قد بقي في منصبه كرئيس للوزراء ورئيس للحزب الحاكم وأصبح بولنت آرينتش – مثلًا – رئيس الجمهورية بعد حصوله على نسبة الأصوات نفسها التي حصدها أردوغان، هل كانت تركيا تشهد الأزمات مثل ارتفاع سعر صرف الدولار الأمريكي وتعقد مستقبل جهاز المخابرات وانهيار جدية مفاوضات السلام مع الأكراد والأزمة الأخيرة بين الحكومة ورئيس الجمهورية؟
أمامنا توزيع خاطئ للمهام والمسؤوليات هو السبب وراء الأزمة الراهنة داخل النظام الحاكم في تركيا. فأردوغان يعمد إلى استغلال صلاحيات رئيس الوزراء ورئيس حزب العدالة والتنمية بينما يتولى منصب رئيس الجمهورية. بيد أنه لا يمكن أبدًا أن يكون جزءًا من البنية المؤسسية للحكومة أو الحزب. فعندما أراد أن يكون جزءًا منها، بدأ نظام الحكم يترنح.
ليس أمام داود أوغلو أي خيار سوى تولّي رئاسة الوزراء ورئاسة حزب العدالة والتنمية. فإما أن يؤدي المهمة والمسؤولية التي يتولاها بحق وإما أن ينجرف بالرياح التي تهب بقوة ليسقط في مكان بعيد للغاية. فهناك زعيم قوي بالفعل (أردوغان) في جانب وفي جانب آخر هناك رئيس وزراء ورئيس حزب يتحمل المسؤولية المنصوص عليها في الدستور، فلا مفر من حدوث الصراع. والسؤال الأهم هو: مَن سيتخذ القرار النهائي في قائمة المرشحين في الانتخابات البرلمانية المقبلة؟
لقد أقدم أردوغان، بالشكل الذي لاحظه حتى هو نفسه، على اختيار خاطئ عندما آثر منصب رئيس الجمهورية ذي الفخامة والرمزية على رئاسة الوزراء ورئاسة الحزب الحاكم الذي كان يمكّنه من امتلاك القوة الفعلية بين يديه. وأفضى هذا الاختيار الخاطئ إلى أزمة إدارية ممنهجة في تركيا، ثم تحولت هذه الأزمة إلى أزمة مزمنة، فتحدي آرينتش يعتبر تمردًا على الأزمة التي تحولت إلى شكل ممنهج عن طريق إدارة أردوغان. لأن أردوغان أراد أن يذكر بثقله السياسي من خلال إحداث الأزمة. أما آرينتش فضاعف الأزمة وردها إلى صاحبها.
إن الموقف الذي ظهر به آرينتش من خلال تخطيط جيد وكلمات مختارة بعناية أثبت أن أردوغان لم يعد يتمتع بمهارته في إدارة الأزمات كما كان في السابق. فشكوى أردوغان بأن الناس لم يفهموه على وجه صحيح فيما يتعلق بالسلام الداخلي ولجوؤه إلى حجة أنه انتقد اجتماع دولمابهشه من أجل سلامة الصلح يدل على أنه تراجع عن موقفه تراجعا خطيرا أكثر من تراجع آرينتش إذ اعتذر منه.
كان أردوغان ينوي أن يستغل الأزمة التي أوجدها من خلال موضع حساس مثل مفاوضات السلام مع الأكراد من أجل التذكير بقوته وفرض سلطته على الحكومة والحزب الحاكم وإعلان احتكاره في التصرف في قائمة المرشحين في الانتخابات البرلمانية. لكن حملته لم تصل إلى هدفها بفضل احتجاج آرينتش.
إن الأزمة حول النظام في تركيا تستمر من خلال “الزلازل” الذي ضرب الحزب الحاكم، ولا يبدو الحل ممكنا حاليا. فإذا ودّع داود أوغلو عالم السياسة فيمكن أن تحَل المشكلة مؤقتًا، لكن النظام الحاكم يواصل سيره المتعثر. فماذا هو المطلوب من أردوغان في هذه الحالة؟ هل المطلوب منه أن يبقى في حدود صلاحيات منصب رئيس الجمهورية المنصوص عليها في الدستور؟ ولكن هل عندكم أي أمل في أن يفعل ذلك؟