بقلم: عمر نور الدين
فقدت تركيا تناغمها مع أنها تحت حكم حزب واحد.. بدأ الصراع يدب في أركان الدولة وبين أجنحة السلطة وسط أجواء التحضير للانتخابات البرلمانية التي ستجرى في السابع من يونيو/ حزيران المقبل… مشهد ينبئ عن تملك نزعة الاستبداد بقمة الدولة لدرجة أن رجلا واحد ما عاد قادرا على أن يرى غير نفسه.
صراع أجنحة السلطة في ظل حكم الحزب الواحد له العديد من الأمثلة والنماذج في الديكتاتوريات والأنظمة التي أسقطتها الثورات، وفي الأغلب كان يتولد نتيجة ظهور جيلين، جيل الحرس القديم وجيل الحرس الجديد أو جيل الشباب وجيل الشيوخ في الحزب الحاكم نتيجة تقادمه في السلطة، أما في حالة تركيا فيبدو الأمر مختلفا، فهناك عملية طحن لمؤسسي الحزب والأعمدة التي بني عليها يقوم بها شخص واحد ينظر للجميع على أنهم أدوات لتحقيق أطماعه في الانفراد بالسلطة، ويرى أن على الجميع أن يسمع صوته وألا يكون هناك صوت يعلو على هذا الصوت.
وبناء على هذا يمضي الزعيم الذي يخال نفسه الرجل الضرورة، الذي بغيره لن تقوم للدولة قائمة، في رسم وهندسة حاضر البلاد ومستقبلها ومجريات الأحداث وتطوراتها يتحكم في قرارات الحكومة ويتدخل في ترشيحات الحزب للانتخابات المقبلة رغم أنه لم يعد منتميا للحزب، عمليا بحكم الدستور باعتباره رئيسا للجمهورية، ويهدد البنك المركزي ويحدث التقلبات في الأسواق بتصريحاته، ويهز مسيرة السلام الداخلي لأن كل شئ يجب أن يمر من تحت يده أولا.
بات ينظر إلى تركيا على أنها مشروع شخصي، وكأنما هو الذي ابتدعها وصممها وأصبح وصيا على أهلها جميعا حكاما ومحكومين، وأن على الجميع أن يقول ” سمعا وطاعة”.. لكن هناك من يبدو أنه شب عن الطوق.
حار الكثيرون في فهم ما حدث عندما استقال رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان، ثم أجبر على العودة إلى منصبه بعد شهر واحد وألغيت معه رغبة رئيس الوزراء أحمد داودأوغلو في أن يراه في عالم السياسة لأن هناك رغبة أعلى ترى في فيدان كاتم الأسرار الفريد من نوعه، فضلا عن أنه لايحق له ولا لرئيس الوزراء أن يتخذا قرارا لم يوافق عليه مسبقا، لذا كان الدرس قاسيا ليس لفيدان وإنما لداودأوغلو.
لم يمض سوى أيام قليلة حتى وقعت الحكومة من جديد في شرك هجومه، الذي لم يعد يطال المعارضة وحدها بل امتد لهيبه إلى االحكومة التي من المفترض أنها تعمل بتنسيق وانسجام مع رئيس الجمهورية، وفوق كل ذلك مع الحزب الذي يقوم حتى الآن وهو رئيس الجمهورية بمخالفة الدستور من أجل الدعاية له وتعبئة الناخبين لمنحه 400 مقعد في البرلمان القادم.. لكن ذلك ليس من أجل الحزب وإنما من أجل العبور إلى النظام الرئاسي الذي يعطيه صلاحيات مطلقة تغنيه عن الحديث مع أحد ولاتخضعه لدستور يحد من سلطاته وحرية إصداره الأوامر لرئيس الحكومة والوزراء وادارة البلاد من غرفة الكونترول الخاصة به.
لا يمكن أن يتراجع وإن كلفه الأمر التضحية بكل من حوله، وليس أكثر من الرئيس السابق عبد الله جول مثالا على ذلك، واليوم جاء الدور للتلاسن والتراشق مع رفيق درب آخر وحجر آخر من أحجار اساس حزب العدالة والتنمية التي يقوم بنقضها الواحد تلو الآخر ليبق وحده من دائرة المؤسسين الضيقة وحوله ثلة جديدة ممن يأتمرون بأوامره.
إن التصريحات التي أدلى به أردوغان ورفض فيها تشكيل الحكومة للجنة متابعة لسير تنفيذ بنود الاتفاق العشرة التي تم التوصل إليها في مفاوضات السلام الداخلي بين الحكومة ومنظمة حزب العمال الكردستاني لإنهاء المشكلة الكردية، إنما هي تحجيم للحكومة وفرض لنفسه على كل شئ أو على حد تعبيره ” حتى لايكون دمية” ومن أجل ذلك لابد للجميع أن يكونوا دمى في يده يحركها كيفما شاء، ولذلك قرر عزل الحكومة عن عملية السلام الداخلي والسير فيها من خلال كاتم أسراه الذي بدأ المفاوضات من أوسلو ثم انتقل الملف ليد الحكومة في عهد أردوغان عندما كان رئيسا للوزراء، ولذلك لابد أن يبقى الملف في يد أردوغان حتى لو أصبح رئيسا للجمهورية وأن يُشغل فيه رئيس المخابرات كما كان يُشغله فيه من قبل عندما كان رئيسا للحكومة.
عندما كان رئيسا للوزراء لم يدع من الأمر شيئا لرئيس الجمهورية وحَجَمه في إطار نصوص الدستور، وعندما أصبح رئيسا للجمهورية تجاوز الدستور الذي تمسك به من قبل ليجعل من رئيس الحكومة شبحا يكاد لايبين له أثر.
لكن أصواتا خرجت أخيرا لتعبر عن حالة الغليان في الإناء محكم الغلق، ليجاهر بولنت أرنتش أحد رفاق الدرب، من موقعه كنائب لرئيس الوزراء ومتحدث باسم الحكومة برفض تصريحات أردوغان حول مسيرة السلام الداخلي، بل ويصفه بشكل غير مباشر بالكاذب عندما قال إنه لم يعلم شيئا عن تشكيل تلك اللجنة، وليقل في تحد صارخ إن لهذا البلد حكومة وهي التي ستتحمل تبعات عملية السلام وليس أي أحد آخر وأن انتقادات أردوغان للحكومة تضعف حزب العدالة والتنمية وتخدم المعارضة قبل الانتخابات البرلمانية في 7 يونيو/ حزيران التي يجب أن يخوضها الحزب وهو بصورة قوية.. والمعنى ابتعد أنت يا أردوغان.
اختلف أرينتش من قبل مع نهج رئيسه السابق رجب طيب أردوغان بشأن أحداث جيزي بارك في يونيو/ حزيران 2013، وكيفية التعامل معها ولم يأبه به أردوغان الذي كان رئيسا للوزراء في ذلك الوقت، وضغط عليه وغاب أرنتش بعدها عن محافل التصريحات واللقاءات التليفزيونية، وهذه المرة أيضا سيقوم الإعلام الموالي لأردوغان بتغييب أرينتش عن شاشاته طالما تجرأ على انتقاد أردوغان.
إنه صراع أجنجة داخل السلطة الحاكمة في تركيا يرقبه رجل الشارع العادي الذي أصبح يضيق بتدخلات أردوغان وحديثه الكثير.. شعور لخصته إحدى ناخبات العدالة والتنمية بقولها:” لقد أصبح يتحدث كثيرا ولم يعد محايدا .. ليذهب ويجلس في القصر ويصمت”.
وأخرى سيدة عجوز من أنصار العدالة والتنمية أيضا قالت:” لقد أصبح يتطاول على كل الناس ويهاجم فتح الله كولن الرجل السمح الذي دائما نتابع أحاديثه ولم نر عليه شيئا مما يقول أردوغان”.
وثالثة قالت: ” والله لن أنتخب العدالة والتنمية هذه المرة.. ولأنني لايمكن أن أصوت للحزب الكردي (السلام والديمقراطية) فسأصوت للحركة القومية..”
رابعة من أشد المتحمسات للعدالة والتنمية ردت عليها .. بل أنا سأنتخب الحزب الكردي.
هذه هي انعكاسات أسلوب أردوغان ومحاولاته هندسة تركيا على مقاسه.. لكن يبدو أن الأمر لن يكون بمثل هذه السهولة حتى لو استطاع تكسير جميع أجنحة السلطة.. ولم يبق غيره، وحتى إن حاول تارة أن يكسب القوميين والجيش وأخرى أن يكسب الأكراد بالوعود الزائفة والمماطلة واللعب بمفاوضات السلام الداخلي.. فاللعبة التي عاشتها تركيا 12 عاما ونجح فيها بمهارة المراوغة لم تكن بسبب أنه اللاعب الوحيد الفذ، وإنما لأنه كان لاعبا وسط فريق من اللاعبين الموهوبين.. لكنه اليوم يقف في الساحة وحيدا بسبب أنانيته.