جان بهادر يوجا
قال بورجس: “حين تقرؤون حكايات ألف ليلة وليلة تشعرون بأنكم تعيشون تفاصيلها، فمن يدخل في عالم هذا الكتاب ينسى حاله البائس”.
وليس هناك أحد لا يعرف القصة الرئيسية في هذه الحكايات التي تعدُّ مثالاً فريدًا على رواية قصة داخل قصة أخرى: فالسلطان “شهريار” الذي علم بخيانة زوجته له أخذ يتزوج كل الفتيات في سلطنته ويقتل واحدة منهن تلو الأخرى كل ليلة، ثم تزوج من “شهرزاد” ابنة الوزير التي تبدأ برواية حكاية له في الليلة الأولى، وكان شهريار يريد قتل شهرزاد عند بزوغ الفجر، ولكنه تخلى عن قتلها لأنه كان متشوقًا لسماع بقية الحكاية، وكانت شهرزاد في كل ليلة تقف عند أكثر تفاصيل الحكاية تشويقًا، فهي أفضل من تروي الحكايات في تاريخ الأدب، فقد روت 1001 حكاية خلال 1001 ليلة، وفي نهاية الليلة الأولى بعد الألف كانت شهرزاد قد أنجبت الأطفال من شهريار، وحينها تخلى شهريار عن فكرة قتل شهرزاد.
رواية الحكايات من أجل البقاء على قيد الحياة: صورة تجعل شهرزاد في مكانة متميزة من بين كل رواة الحكايات من عهد هوميروس إلى الروائي الفرنسي بروست، في الحقيقة ثمة شخصيات عدة في حكايات ألف ليلة وليلة تروي الحكايات من أجل البقاء على قيد الحياة، وكلهم ينجون بحياتهم بواسطة الحكايات، وكانت رسالة شهرزاد لشهريار واضحة: “لا تقتل من تروي لك الحكايات، وطبعًا هذه الحكايات ليست مجرد أحداث مرَّ بها كل من السلطان وشهرزاد، ومن رأى أنها كذلك فكأنه يرى مسرحية” ماكبث” مجرد أحداث مر بها زوجان، فالحكايات أكثر من ذلك بكثير.
ونحن نعلم أن أقدم نسخة من الحكايات تعود إلى القرن العاشر، ولو لم نعرف محتواها إلا أنه قد وصلت إلى يومنا هذا 22 نسخة عربية، وهي تحاكي الحياة اليومية في العالم الإسلامي في القرون الوسطى، وبعض التفاصيل في الحكايات لا تمس الثقافة الإسلامية بصلة، ما يسبب بعض الحيرة: فهناك من ينسى أن قسمًا كبيرًا من حكايات ألف ليلة وليلة يعود في أصوله إلى الهند والشرق الأقصى، وكانت ترجمة أنطوان جالان لهذه الحكايات في القرن الـ17 قد عرَّفت الغرب بها، فاكتسبت الشهرة في العالم الغربي من خلال ترجمته، وهناك حكايات غير معروفة المنشأ في حكايات ألف ليلة وليلة الحكايات اليتيمة، فعلى سبيل المثال حكاية “علي بابا والأربعون حرامي” من أشهر حكايات ألف ليلة وليلة، ولكنها غير موجود في أية نسخة أصلية.
وإنه من الغريب ألايكون لهذه الحكايات أهمية في الوسط الأدبي العربي، وأستثني الروائي نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل للآداب، فقد حاكى بعض شخصيات ألف ليلة وليلة وجعلها تهجو عصره المتردِّي، ولا يمكن أن نقول إن الحكايات تلقى الاهتمام في عصرنا هذا، وإني أذكر قصة “الليلة 602” لمراد جولصوي، التي كتبها في عهد قريب. ولكن جولصوي في سرده لم يستلهم القصة من حكايات ألف ليلة وليلة بل من شرح بورجس لليلة 602.
وحتى لو لم تُعدَّ الحكايات من الأدب الرفيع إلا أن تأثيرها في تاريخ الأدب أمر محيِّر، فمثلا حكاية “التاجر والمحتالانِ” نجد تفاصيلها بشكل أوسع في قصص مدينة “كانتربري” الإنجليزية، ونجد الكتاب المسموم في “بيلجا دوبان” في رواية “اسم الوردة” لأومبيرتو إكو، وقد كتب روبرت لويس ستيفنسن قصصًا جديدة بعنوان “ألف ليلة وليلة”، واستلهم كثير من الأدباء من حكايات ألف ليلة وليلة مثل “كلافيون” و”بيات”، وفي نقاش لنا منذ عدة سنوات قال روبر إيروين، الذي أعد نسخة إنجليزية من ألف ليلة وليلة للطبع: “حكايات ألف ليلة وليلة هي أكثر الكتب تأثيراً بعد الإنجيل في الأدب الغربي” ،هذا فضلاً عن الأمثلة السينمائية حيث يعدُّ “بازوليني” علاء الدين في (ديزني).
ولقد انشغلت بالحكايات في الأسابيع الأخيرة، فهي ليس خيالية جدًا، فثمة عالم معروف فيها، فهذه الحكايات عالم بحد ذاته :الحكام الظالمون والخلفاء الذين لا سلطة لهم، (حكاية هارون الرشيد والخليفة)، واللصوص الذين يكافأون ورجال الشرطة الذين يسجنون (حكاية المحتالة دليلة وابنتها زينب)، والسلطان الشكاك الذي لا يستمع لكلام الحكيم ويحفر قبره بيديه (حكاية الحكيم دوبان).
وأعود الآن إلى الكلمة التي ذكرناها في بداية هذا المقال والتي قالها “بورجس” الذي يرى أن هذه الحكايات عبارة عن متاهة، حيث قال: “لا يمكن أن تلتقي تجارب قارئ أرجنتيي بتجارب قارئ تركي دومًا، فنحن لن نجد الحكايات خيالية كما وجدها بورجس بل سنجدها مألوفة كما رآها نجيب محفوظ لأننا نعيش في بلد كبلده”.
أما هناك فحتى الحكايات لا متعة لها.