علي أونال
لم يكن الحر بن يزيد قائد الجيش الذي أوقف الحسين رضي الله عنه في كربلاء يتوقع تطور الأحداث لينجم عنها مقتل الحسين.
ولكنه بدأ يتردد حين رأى أن الأحداث وصلت إلى هذا الحد. وحين شعر المهاجر بن أوس من الجيش نفسه بتردّده هذا قال له: ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت، وأخذه مثل العرواء، فقال له: “يا ابن يزيد، والله إنّ أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل شيء أراه الآن، ولو قيل لي مَن أشجع أهل الكوفة رجلاً ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك”؟ فقال الحر: “إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار”. ثم سكت قليلا وأردف: “والله لا أختار على الجنّة شيئاً، ولو قطّعت وحرّقت”. ثمّ ضرب فرسه فلحق بالحسين الذي قال له: الآن أصبحت حرًّا كاسمك.
والمحكوم ليس هو الذي يُزجُّ به خلف القضبان بسبب إيمانه وأفكاره وثباته على الحق، كما أن الحر ليس من يمشي بحرية في الشوارع لعدم اهتمامه بالنضال من أجل الحقوق والعدالة. بل إن الحر هو الشجاع الذي نذر حياته للحق والعدالة كابحاً جماح شهوته للنساء والبنين والثروة والمنصب والسيارات والأشياء والعمل والمكاسب؛ أما المحكوم فهو الشقي الذي يضحي بالحق والعدالة في سبيل شهواته، ثم يحاول التستر على ذلك من خلال أضحية في عيد الأضحى.
فالحر لا يركع إلا لله، ويرى أن الانحناء لكل السلطات أمرٌ يخالف الغاية التي خُلق من أجلها الإنسان وهي عبوديته لله. أما المحكوم فهو الشقي الذي ينحني أمام السلطات الغاشمة المستبدة في سبيل شهواته ومكاسبه الخسيسة ومخاوفه ثم يحاول التستر على ذلك بالصلاة.
فالسلاسل والقضبان لا تُثني الإنسان الحر عن حريته. كما أن القصور والمناصب والجيوش والثروات وأي شيء آخر لا تمنح الحرية للإنسان الذي تأسره شهواته.
وقد قال أبيكتاتوس على لسان لاتيراموس في مواجهة نيرون: “أتهددني بالقيود والسلاسل؟ لا يمكنك ذلك. فلا يمكنك أن تقيِّد سوى رجليَّ. أما إرادتي فلا”.
فقال نيرون: “سأضرب عنقك على الفور”. ورد لاتيراموس على هذا التهديد: “فمتى قلتُ إن عنقي محمية من الضرب؟!”.
نعم أولم يقل بديع الزمان سعيد النورسي ذلك للمحكمة التي حكمت عليه بالإعدام في 31 مارس/ آذار: “كان هذا الحكم الظالم يعادي العقل في عهد الاستبداد، والآن بدأ يعادي الحياة. فليحيا الجنون وليحيا الموت إذا كانت الحكومة على هذه الشاكلة! ولتحيا جهنم للظالمين”.
وكما كتب المفكر الإسلامي التركي الأستاذ فتح الله كولن قبل سنوات عديدة فالحرية الحقيقية هي راحة الضمير وغنى النفس والإرادة. فالأحرار الذين قُيدوا بالأغلال ودخلوا السجون لم تُؤسر سوى أجسادهم. أما جموع الناس المفتقرين إلى الشعور الذين يُظن بأنهم أحرار فهم يتعرضون لمئات الأنواع من الأسر. فالأشقياء الذين يخلطون بين الأسر والحرية هم أسرى بيد الجهل والخداع والنزوات اليومية والشهرة والمنصب والشهوة والمال وآلاف الملاعن الأخرى. وفوق ذلك فإن هؤلاء الذين يُظنُّ بأنهم أحرار لا يتمكنون من الخلود إلى النوم. لأنهم يعيشون عذاب الضمير في كل لحظة. فتتوالى عليهم الكوابيس. أما الأحرار المحكومون جسداً فإن أرواحهم وإرادتهم في مطلق الحرية وتحلق نحو الآفاق، فلا الشهرة ولا الثروة ولا المنصب تعكر صفو أرواحهم. ولكن الأشقياء الذين يعبِّرون عن أحقادهم وغضبهم من خلال تقييد الناس لا يدركون هذه المعاني السامية. فسيل الحشود والفاسدون الخاوية قلوبهم من نقطتي الاستناد والاستمداد والضائعون والمتساقطون في الطريق وكل الطامعين أشقى وأسوأ حالا من العبيد الذين كانوا يباعون ويُشترون في أسواق النخاسة في العصور القديمة. فهؤلاء حتى لو حرقوا العالم في سبيل مصالحهم وأحقادهم لا يمكنهم التخلص من شعورهم بالاغتراب والوحشة بل يزيدون من شعورهم بالأسر.
ونختم بقول أحدهم: “إننا نتأسف على أسر الملايين في الخارج بصفتنا أحرار في السجون…”