تركيا – إسطنبول – زمان عربي- بقلم: الأستاذ فتح الله كولن
-لا انسجام بين الجهاد والدعة
إن الذي يعيق الإنسان عن مهمة الجهاد هو الركون إلى الحياة والافتتان بلذائذها. فالذي لا يستطيع ترك راحته ولا يضحي بحظوظه الشخصية وأذاوقه الذاتية، لا يُنتظر منه مهمة جليلة كالجهاد، بل من العبث الانتظار. ذلك لأن المهام الجليلة لا ينهض بها إلاّ من يُضحي بمطامعه الشخصية وأذواقه المادية والمعنوية.
ان عشاق الجهاد يرغبون في العودة إلى صفوف الإنسانية ليسعدوهم بإدامة الجهاد حتى عندما تتفتح لهم أبواب الجنة على مصاريعها وتستقبلهم الحور العين ويستقبلهم الولدان المخلدون كاللؤلؤ المنثور.. هؤلاء العشاق هم الذين ينجزون المهام الجسام.
أعرض لكم هذه المسألة بجهتها الناظرة إلى الدنيا:
تصوروا مجاهداً يُسّر له الصعود إلى مقام عضوية البرلمان أو عُرِض عليه ليكون رئيساً للوزراء أو رئيساً للجمهورية. فهو يفضّل -حتى في هذا الموقف- أبسط خدمة تتعلق بمهمة الجهاد المقدسة على تلك العروض.
إننا ننتظر ونترقب هذا الإنسان منذ سنين طوال. هذا الإنسان الذي استوعب روح الجهاد وأشبع بعشق النضال والكفاح.
أما الذي لا يستطيع أن يضحي بأحاسيسه المادية وفيوضاته المعنوية ولم يعقد العزم من أول الطريق، فلا نأمل منه شيئاً، بل نقلق ونخشى من عواقب المشكلات التي ستأتينا منه حالما يظهر في الساحة. إن من لم يترك دنياه وعقباه، ولم يترك حتى التفكير في هذا الترك، ولا يؤمن بأن جميع لذّاته وأذواقه فيما يجاهد في سبيله في عشق مطلق ولذة مطلقة، ولا يجد لذته في سعيه بالذات، ولا يستطيع القول: “ما أطْيب الموت في سبيلك يا إلهي”… لا نثق بجهاده ولن نثق، ولا نرى أنّ جهاده يكون مثمراً ولا يكون في سبيل الإسلام وإنقاذ الأمة. بل نثق بكفاح وجهاد الذين يدَعون متعهم الشخصية وحظوظهم النفسانية، ويتركون حتى مساكنهم وبلادهم دون أن يعقبوا على شيء كما فعله الصحابة الكرام، أولئك الذين استَعلَوا على شهواتهم وملذاتهم المادية. فهؤلاء هم الذين ننتظرهم منذ مدة ونأمل منهم الجهاد، ونعدّهم من أسباب العناية الإلهية.
ومقابل ما ننتظره ونأمله، ينبغى أن يكون ما يعمله إنسان اليوم باسم الجهاد والكفاح على النمط نفسه ومتوجهاً إلى الوجهة نفسها. أي يجب أن يجاهد وفق هذا المفهوم، وفي الحقيقة إن القرآن الكريم يذكّرنا دوماً بهذا النمَط من الجهاد، إذ يقول الله تبارك وتعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى اْلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي اْلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(التوبة:38-39).
أي أفيقوا وبلّغوا كلمة الحق، ودَعوا جانباً متع الحياة الدنيا وشهواتها الحيوانية والجسدية. في سبيل إعلاء كلمة الله في الآفاق ما لكم تتثاقلون إلى الأرض ولا تنفكون عنها وعن مطامعكم الشخصية وترضون بهذه الحياة الدنيا وتنبهرون أمامها. أرَضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ أوَ أشفقتم على الحياة الدنيا التي لا تُغني شيئاً. سيزول ويأفل كل ما حولكم من شباب وصحة ومال وثروات، فليس في وسعكم الاحتفاظ بها، وستنطلق الحسرات والزفرات من أرواحكم وأنتم تتباعدون عنها. والحال تنتظركم العُقبى وديار الأبَدية والخلود، فلا زوال لنعيمها ولا نفاد للَذائذها وفوق ذلك مشاهدة جمال رب العالمين في كل أسبوع.. فبينما الأمر هكذا، أفَرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟
وهناك آية أخرى تشير إلى أن الدعة تعيق الجهاد.
﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾(التوبة:42).
بمعنى أن لو كان ما يُدعون إليه فيه ما ينتفعون به من غنيمة قريبة، ومن سفر قريب فيه الراحة والدعة، لاتّبعوك ولَجاءوا معك دون شك ولا شبهة. ولكن الأمر خلاف هواهم ورغباتهم. فلا منافع مادية قط فيما يقصدون إليه، ولا مناصب ولا جاه يغنمونها من هناك، فضلا عن أن الطريق طويل جدًّا. لذا سيفترق المؤمن عن المنافق هنا افتراقا تامًّا. وبينما المؤمنون يتبعونك من دون تردد يسعى المنافقون ليجدوا طرقاً للهروب ووسائل للتخلّف، ولا يجدونها إلاّ في الكذب، وبهذا يهلكون أنفسهم. حيث لا عائق أمامهم عن الجهاد كما يعلمه ويعرفه وِجدانهم. والأعذار التي ساقوها ما هي إلاّ لخداع أنفسهم. ولهذا يظل وجدانهم في قلق واضطراب. وقريبٌ هلاكُ مَن لا راحة لوجدانه.
إن معرفة الجو الذي كان يسود المدينة المنورة قبل “تبوك” لها أهميتها لمعرفة أبعاد المسألة. ولهذا سنبحث باختصار عن ذلك الجو:
رجع المؤمنون توّاً من سفر، وكانوا بحاجة إلى أخذ قسط من الراحة للتأهب لسفر جديد. وقد حان وقت حصاد الثمار. والجو شديد الحر. في هذا الوقت بالذات دعا الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين إلى السفر.
استجاب المؤمنون بما لديهم من غال ونفيس لهذه الدعوة. فأتى سيدنا أبو بكر بكل ماله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. وخص سيدنا عمر الفاروق نصف ماله لهذا الغرض. وما بذله سيدنا عثمان لا حد له. أما سيدنا علي فقد أعطى قسماً من ماله سرًّا وآخر علانية وفق إدراكه الخاص للإخلاص. ودفع سائر المؤمنين ما يملكون كل حسب استطاعته. فدخل الجميع في سباق للبذل والإنفاق والمنافسة في الخير بآخر ما يملكونه. والنساء اشتركن أيضا في هذه المسابقة للخير حتى امتلأت حجرة أمّنا عائشة رضي الله عنها بحاجات نسائية. إذ قدّمن ما يملكن من حليّ؛ فمنهن من نـزعن قلادتهن وأسوارهن وأقراطهن وقدمنها لهذا الخير العظيم. وهكذا كانت إجابة المؤمنين لدعوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
أما المنافقون فكانوا يشترطون لإجابة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بألاّ يكون السفر طويلا ولا الجو حارًّا، ولا يكون في موسم الحصاد.
ومنهم من يأتي باقتراح آخر فيستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان “جَدّ بن قيس” من هؤلاء… كان يسرع إلى الصلاة بمجرد سماعه الأذان، ولكنه لم يتمكن من غرْز الإيمان في أعماق قلبه، وتحويله إلى إذعان، ولم يترفع عن أهواء نفسه. فعجز عن أن يعزم على الانخراط مع المضحّين… أتى إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وكان الرسول يعالج فرسه بيده الشريفة، وعندما شاهد قَيساً قال: حتى أنت لا تأت معنا؟ إذ لم يكن ممن يُنتظر منهم التخلّف. ولكنه لا يأتي بل يحال دونه. فلا يمنحه الله هذا الشرف العظيم، كان وقِحا قليل الحياء فتقدم إلى الرسول الكريم ليستأذنه قائلا: “يا رسول الله، أوَتَأذن لي ولا تَفتني، فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن”. والقرآن الكريم يوضّح أمره هذا بالآية الكريمة الآتية ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾(التوبة:49).
وجاء آخرون ﴿وَقَالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ﴾ فكان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم هو جواب القرآن ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾(التوبة:81). فالذين قاسوا المشقّات وتجشموا الصعاب وتجرعوا الآلام في الدنيا سيكونون في مأمن عن النار في الآخرة. أما الذين أمضوا حياتهم الدنيوية في الملذات واستمتعوا بها سيعرضون على النار هناك ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾(الأحقاف:20).
نعم، القرآن الكريم يستنفر المؤمنين جميعا للجهاد، وسنكون من الفائزين أو الخاسرين حسَب استجابتنا لهذه الدعوة. فإما نقول: عسير علينا ترْك لذائذ هذه الحياة كما قاله المنافقون. أو نعمل بمثل عمَل الصحابة الكرام الغرّ الميامين فنأتي بما لدينا ونتأهّب للجهاد.
أمثلة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحبه الأطهار حول ترك الدعة والراحة
لأجل الفوز بالدنيا والعقبى يترك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بيته وبيت الله المعظم الكعبة الشريفة مركز الأرض، ويترك مكة المكرمة التي عاش في أكنافها وقابل الفيض الإلهي المقدَّس في أجوائها وفي جبالها ووِديانها، ويترك غار حراء الذي عانق فيه السماويّين.. يترك كل هذا ويعلمنا كيف ينبغي للمؤمن أن يترك أحبّ شيء عنده في سبيل دعوة جليلة مقدسة. وحينما أخرجه قومه من مكة المكرمة لم يكن في حالة روحية أليمة لتركه ما وراءه، بل كان ينظر بأمل ونشوة إلى ما يقابله في أفق المستقبل.
العدوّ يتربص به الدوائر ويتعقبه خطوة خطوة ويحيط به من كل جانب كحلقة من نار حتى بلغ به الأمر الاختباء في غار “ثوْر”، ومن هناك يتوجه الحامل الأبدي للدعوة العظيمة إلى المدينة المنورة ليبني الصرْح السامق ويستقبل الإنسانية جمعاء. ولأجل هذا كان في كل آن يسيح في حضن موت جديد وكأنه يجابهه في كل زاوية وفي كل ساحة وميدان. ولكن لم تستطع هذه العوائق كلها من أن تورث فيه اضطراباً أو قلَقاً قط. وحتى عندما كانت أقدام الأعداء تشاهد من الغار الذي اختبأ فيه، كان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه يقلق لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه كان في اطمئنان بالغ كما يصفه أبو بكر رضي الله عنه “كان يبعث طمأنينة كأنه بين أصحابه الأمناء”. ثم ما الداعي إلى القلق والاضطراب؟ فلئن كان الله سبحانه يريد أن يأخذه من هذه الدنيا فسيأخذه إذن من تحت عبء عظيم وسيرسله إلى عالم الراحة والطمأنينة. فلمَ يضطرب؟ ألا ينجو من دنيا كل شيء فيها زائل إلى عالم كل شيء فيه باق؟ أليس الله معه كل حين؟ ألا يراه ويرى كل أحواله كل آن؟.. ولهذا خاطب أبا بكر بـ”ما ظنُّك باثْنَين اللهُ ثالثُهما”[1] بمعنى أوَ تظن أن محمداً وأبا بكر وحيدان فريدان؟ كلا إن الله معنا. هكذا كان يقول لأبي بكر ولا يخاف قط. بل لو عاداه أهل الدنيا كلها لم يغتم ولم تنل الدنيا منه شيئاً قط. بل لو تركه الناس كلهم أجمعون وحتى أبا بكر لكانت ثقته بالله واعتماده عليه تملآن قلبه اطمئنانا به، فالله سبحانه وتعالى يؤيده بجنود لا نراها.[2]
نعم، إننا لا ندرك كيفية أولئك الجنود ولكن ندرك الحقيقة الآتية وهي: إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان مؤيَّداً بجنود الله مرات ومرات.[3] وما معركة “بَدر” إلاّ أنشودة هذا التأييد. فمثلما يُطلق على الصحابي الذي اشترك في بدر إنه من “أصحاب بدر” كذلك يطلق على الملَك الذي اشترك فيها أنه من “ملائكة بدر” “عن مُعاذِبنِ رِفاعةَ بنِ رافعٍ الزُّرَقِيِّ عن أبيه -وكان أَبوه من أهل بَدرٍ- قال: جاء جبريلُ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما تَعُدُّونَ أهلَ بَدرٍ فِيكُم؟ قال: مِن أَفضل المسلمين أو كلمةً نَحوها. قال: وكذلك مَن شَهِدَ بَدرًا مِن الملائكة”.[4]
يذكر صحابي جليل إحدى تلك البطولات الفريدة الخارقة بالآتي:
“بينا رجل من المسلمين يشتد -يسرع- في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم. إذ نظر إلى المشرك أمامه، فخر مستلقياً. فنظر إليه، فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه كضربة السوط..”[5] وعندما ذكر الحادث للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال: “حيزوم” اسم فرس جبريل والذي ضرب السوط هو. فكان جبريل قد تعمم بعمامة صفراء كعمامة الزبير بن العوام ويضرب يمنة ويسرة”.[6]
وفي أُحد افتقد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، وكان أمامه مصعب يقاتل بين يديه. وعندما آلت الشمس إلى الغروب وولى الكفار، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “أقدم يا مصعب”، فقال له عبد الرحمن: يا رسول الله! ألم يُقتل مصعب؟ قال: بلى، ولكن ملَك قام مكانه وتسمى باسمه.[7] وهكذا يفهم كيف أن الله يؤيده بالملائكة. نعم إن الله سبحانه وتعالى ما ودّع حبيبه صلى الله عليه وسلم وما قلاه قط.[8] وفي حُنين لم يتركه الله عز وجل في تلك الآونة الحرجة جدًّا دون تأييد من الملائكة.[9]
إن أغلب الذين يتخلفون عن الجهاد إنما يتخلفون عنه خوفاً على الحياة. والحال لا يُترك قطعاً من يسير في هذا الدرب ويدرج في هذا السبيل ولا يبقى وحيداً فريداً كما لم يُترك وحيداً قُدوتنا العظمى ومفخرة الكونين في أحلك الأزمان وأحرج الأوقات.
إن من يستسلم لله حق الاستسلام لا يقلق أدنى قلق ولا يضطرب قطّ، لأنه يعتقد: “أنني مؤمن بالله، فهو معي، لا داعي إذن للتوتر ولا إلى التسيب. فلا يخيفني شيء أبداً مادام الله الذي لا إله إلا هو له الملك وله القدرة المطلقة ظهيري ونصيري”. فما ينبغي التردي إلى هاوية التردد كما تردى فيها اليهود. إذ لما استُنفروا للجهاد عصَوا نبيهم لما ساورهم من قلق بلا سبب فأبدوا عدم الاطمئنان بالرب الجليل. وإن تخلّفهم الذي كان لتخوف لا معنى له لم يفدهم شيئا غير جلب ما يُتخوف منه. فنالوا صفعة تأديب خلاف مقصودهم، فتاهوا أربعين سنة في الصحراء.
ونحن إن كنا نريد أن ينتهي ما نحن فيه من تيه واضطراب نقاسيهما طوال ثلاثة عصور خلت، علينا أن نعود إلى هويتنا الأصيلة وشخصيتنا الذاتية في ظل تربية الحقيقة الأحمدية عليه الصلاة والسلام، ونسعى للاندماج بالإسلام.. نعم، نسعى كي ينجينا الله تعالى مما نخشى منه ونضطرب فيه. وسيجعلنا سبحانه وتعالى أعزاء كرماء مادُمنا لا نركن إلى المنافع المادية كثيراً ولا نشغفها حبًّا ولا ننكس رؤوسنا أذلاء أمام مطامع الدنيا بل ندير ظهورنا إليها وإلى أذواقها ولذائذها.
من الناس من يضحي بآخرته من أجل نعَم الدنيا ولذائذها؛ ومنهم من يجعل دنياه كلها في سبيل آخرته، فالمؤمن هو هذا. فهو يستخدم كل ما منحه الله سبحانه له في الدنيا في سبيل إعمار آخرته.
المؤمن هو من يعيش لدينه. فإذا أصبح الدين مهيمنا على العالم ومسيطرا عليه وجعل الأرض تحت حاكميته فعندها تكون لحياته معنى. وإلاّ فالحياة المعيشة ليست إلاّ عبئاً ثقيلاً. المؤمن لا يحب نمط حياة لا يهيمن عليها دينه. بل يقول: “تبًّا لمثل هذه الحياة”. فالمؤمن الحق يترنم ويستشعر دائماً صدى هذا القول:
“لقد ضحّيت حتى بآخرتي في سبيل تحقيق سلامة إيمان المجتمع، فليس في قلبي رغب في الجنة ولا رهب من جهنم، فليكن سعيد بل ألف سعيد قرباناً ليس في سبيل إيمان المجتمع التركي البالغ عشرين مليوناً فقط بل في سبيل إيمان المجتمع الإسلامي البالغ مئات الملايين. ولئن ظل قرآننا دون جماعة تحمل رايته على سطح الأرض فلا أرغب حتى في الجنة، إذ ستكون هي أيضا سجناً لي، وإن رأيت إيمان أمتنا في خير وسلام فإنني أرضى أن أُحرق في لهيب جهنم، إذ بينما يحترق جسدي يرفل قلبي في سعادة وسرور.”[10]
فهذه كلمات من استعلى على رغبات النفس الأمارة. ومن المعلوم أن من استعلى على رغبات نفسه وحظوظها لا يحول دون مقصده شيء.
2-علاقة الجهاد بالاِستعلاء على الحياة
إن العزوف عن الحياة مرتبة أعلى من ترك الدعة والراحة وهو الآخر شرط مثله لمن يريد الجهاد في سبيل الله وضمن مرضاته ووفق موازينه. أجل إن جهاد الذين لا يستطيعون استصغار الحياة ويعجزون عن رؤية العقبى واضحة كرؤيتهم للدنيا، من الصعوبة جدا أن يعيشوا الجهاد بكل أبعاده. والدليل على هذا من خير القرون:
“قال عليّ رضي الله عنه: لما انجلى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد نظرت في القتلى فلم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت والله ما كان ليفر وما أراه في القتلى ولكن أرى الله غضب علينا بما صنعنا فرفع نبيه صلى الله عليه وسلم فما في خير من أن أقاتل حتى أقتل فكسرت جفن سيفي ثم حملت على القوم فأفرجوا لي فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم”.[11]
نحن مضطرون للمشاركة في الحياة الاجتماعية غير غافلين عن الجهاد المستميت المستديم. مضطرون إلى جهاد لا يُبغى من ورائه غير مرضاته سبحانه، مشحون بـ: “ليس في قلبي رغب في الجنة ولا رهب من جهنم”. وينبغي أن تكون أنبل غايتنا التضحيةُ بكل ما نملك في هذا السبيل. مرددين ما قاله ثابت بن الدحداح يوم أُحد والمسلمون أوزاع: “يا معشر الأنصار إليّ إليّ إن كان محمد قد قتل فإن الله حيّ لا يموت فقاتلوا عن دينكم”.[12] فعلينا أن نغادر هذه الدنيا كما غادرها بابتسامة مشرقة مستنشقاً ريح الجنة دون أُحد.
إن استصغار الحياة بكافة مرافقها وإقامة التوازن بين الدنيا والعقبى بإعطاء كل منهما درجة من الإهتمام على قدرهما هي الحياة المثلى والعيش اللائق للمسلم. إذ تنحل كل الأمور بعد إقامة هذه الموازنة. فالأساس هو إقامة هذا التوازن باختيار الأولى والألزم لدى مواجهتنا الدنيا والآخرة معاً وبمقدار ما يتركان من ثقل في وجداننا. وهذا يقتضي تقييم الدنيا بقدر قيمتها والآخرة بقدر قيمتها.
فالذين يستطيعون إقامة هذا التوازن لا يغشاهم خوف أو قلَق. فلو انفلقت الدنيا على رؤوسهم لَما اضطربوا، ذلك لأن الخوف والقلق إنما ينشآن من عشق الدنيا والهيام بها بينما هؤلاء يستخفّون بالحياة. فلا ينتاب القلق والاضطراب من يعلم أن الحياة عابرة فانية. وأن الربح والفوز هو في دار الآخرة، فيجب بذل الجهود للحصول عليها. حيث الشوق إلى الآخرة نبع فياض مبارك للشجاعة والإقدام.
انظروا إلى هذا المثال: لقد ضحّى المسلمون بسبعين شهيدا في أُحد، والباقون أُثخنوا جروحاً. وهكذا رجعوا إلى المدينة. حتى كان الرسول صلى الله عليه وسلم معصوب الرأس من جرح أصابه، والجميع منهكو القوى لا يقدرون على حمل سلاح. في هذه الأثناء إذا بخبر يشاع بين الناس مفاده أن أبا سفيان سيأتي مع جيشه إلى المدينة مرة أخرى. وما أن بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الخبر حتى أمر بالخروج لطلب العدو و”أن لا يخرج معنا أحد إلا حضر يومنا بالأمس”. لم يتوان أحد قط عن إنفاذ الأمر. علما أن بعضهم قد فقد ذراعه وآخر فقد ساقه ورجله ولكنهم جميعا حضروا منتظرين في مكان التجمع، بل كان منهم من أتى زحفا. إذ لما كان الأمر هو الخروج للجهاد فلِمَ يقعد صحابي في زاوية ولِمَ يتخلف. لأنه ما من أحد منهم جبن أو أصابه الخور، على الرغم من أجسامهم المثخنة بجروح استنفدت طاقتهم ولكن أرواحهم كانت تطير بأجنحة الشوق. والقران الكريم يبين وضعهم بالآتي:
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾(آل عمران:173).
لقد ترك هذا الخروج أثره في صفوف العدو حيث ولّوا مدبرين ولم يعقّبوا على شيء لما ظنوا أن المسلمين قد خرجوا لطلبهم بمدد جديد. وهكذا سجل حفنة من الأُسود المضرجين بالجروح بجسارتهم سطورا ذهبية في التاريخ، فغدا المسلمون منتصرين في أُحد كذلك.[13] حقا إن المسلم هو الفائز دائما. إذ يفوز بإحدى الحُسنيَين فيصبح شهيداً أو مجاهداً أو يصون عزّته وكرامته فيفوز أيضا. سأورد هنا إحدى مشاهداتي:
في غضون أيام الإرهاب والفوضى التي ضربت أطنابها في البلاد. حتى بدأ الإرهابيّون يفتّشون السيارات العابرة ويتخذونها ترسا لهم تجاه قوّات الجيش والشرطة. ولما أرادوا مرة حجز شاحنة مارة واتخاذها ترساً، إذا بسائق الشاحنة -ولا نعلم مبلغ إيمانه ودينه- يخرج عليهم وليس بيده سوى عصا غليظة فيشتت عشرين منهم أيما تَشتيت. هكذا المسلم مضطر في سبيل صيانة عزته وكرامته أن يبدي جسارة كما أظهرها هذا السائق صيانة لماله وعرضه وشرفه. وعلى المسلم أن يعرف كيف يتصرف تجاه الأعداء، فلا يستسلم للإرهابي ولا يقبع في بيته في خوف ووجل، بل عليه أن يكون معاوناً على الخير معينا على الحق.
ولأجل ألا نفسح المجال لتأويلات وتفسيرات خاطئة لا بد أن أوَضح أمرا: إنني لا أقول لأحد -أيًّا كان- تسلحوا وجوبوا الشوارع والأزقّة، لا أقول هذا قطعا. وإن ما أقصده هو أن الخوف والقلق غير وارد لمن آمن بالله.
وإذا أردنا أن نبين مثالا لهذا فسيّدنا الزبير بن العوام رضي الله عنه في مقدمة الأمثلة:
كانت أزقة مكة في يوم من الأيام تهتز بخبر مذهل يصدم الناس كلهم. فقد أُشيع أن محمدا الأمين قد قتل. الجميع في حالة حيرة وذهول لا يعرف كيف يتصرف، غير غلام لا يتجاوز الإثنتي عشرة سنة من العمر يركض من زقاق إلى آخر وبيده سيف يجره. هذا الغلام هو الزبير بن العوام الذي حظي بعد مدة بلقب حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن عمة رسول الله صَفيّة وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: “إنّ لِكلّ نَبِيّ حَواريّا وحَوارِيَّ الزُّبَيرُ”.[14] كان ينتقل هنا وهناك كالمجذوب، ولم يكن أَحد يعرف ماذا يريد أن يصنع. وأخيرا وفي إحدى الأزقّة إذا به أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: “إلى أين يا زبير؟”. فاضطرب الزبير إذ كان يظن أن سيّد الكَونَين رسول الله قد قتل. فقال: اذهبُ إلى قتل من أراد قتلك. فسأله رسول الله بابتسامة: بمَ ستقتل من أراد قتلي؟” قال وهو لا يكاد يرفع السيف بيد واحدة فاضطر إلى رفعه بكلتا يديه: بهذا السيف يا رسول الله. أجل إن الزبير قد انطلق إلى الأزقة حاملا سيفا لا يستطيع حمله، ذلك لأنه يعلم ان لا قيمة لحياة لا تنطوي على محبة رسول الله. فكل حياة بعد حياته لا قيمة لها.[15]
نرى في اليمامة أيضا منظرا آخر في الزهد بالحياة. منظراً مهيباً لمن توجه إلى الآخرة. كان عمّار بن ياسر قد بلغ من العمر مبلغا ولكن ما كان يقول “لقد كهلت فلا حرج علي”. كانت الحرب قد استعرت على أشدها وبدأ الانحلال يطرأ على اليمين والشمال فإذا بالمسلمين يسمعون صوتا مألوفا لديهم ليس غريبا عليهم، يقول: “أيها المسلمون أَهُروبا من الجنة؟ فها أنا عمّار بن ياسر”.
«عن عبد الله بن عمر قال: رأيتُ عمّار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح “يا معشر المسلمين أَمِن الجنة تفرّون أنا عمار بن ياسر هلمّوا إليّ” وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تدبدب وهو يقاتل أشدّ القتال».[16]
أجل لقد صدق قائد هرقل عندما قال: “أيها الملك لا طاقةَ لنا بهؤلاء، إنهم يحرصون على الموت كحرصنا على الحياة، ويحبّون الآخرة كحبنا للدنيا..”
لم يظفر عمار بما كان يتوق إليه في اليمامة. فقد قال له الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم “إن آخر شراب تشربه لبن..”[17] وعمار كان يتوق إلى هذا اللبن، لا يدري أهو في مؤتة أم في اليرموك أم في اليمامة فيخوض حربا إثر حرب. ولكن لم يحْظ بالموت في كل هذه الحروب حتى بلغ صفّين وأخذ موضعه في صف سيدنا علي رضي الله عنه وقد تجاوز التسعين من العمر آنئذ واشتعل رأسه شيبا وكأنه من نور لا يُرى فيه شعر أسود. حارب حتى المساء وعندها قال: “أليس شيء للشرب” فقدموا له قدحا من لبن، وما أن رأى اللبن حتى قال هذا آخر رزقك يا عمّار، لأنه قد سمعه هكذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد قليل شاهد الناسُ أُفول شمس أخرى مع أفول الشمس، هذه الشمس ستشرق على سفوح الجنة. عمار لا يعرف الموت. إذ كان على يقين أن الأجل لا يتأخر ثانية ولا يتقدم[18] والقرآن الكريم يبين هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ اْلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾(آل عمران:145).
أجل إن الله سبحانه وتعالى قد عيّن أجل كل مخلوق مذ خلقه. فكل يموت عندما يحين أجله. سيدنا عمر رضي الله عنه توفى بطَعنة وهو يصلي بالناس مع أنه قد خاض حروبا كثيرة.[19] وخالد بن الوليد رضي الله عنه قد قضى عمره في القتال وليس في جسده موضع درهم لم يصب بطعنة سيف أو رمح، ولكنه عندما حان الأجل سلم روحه على الفراش.[20]
إنني أسعى لعرض الأمر الآتي:
إن الأجل الذي قدّره الرب الجليل لا يستقدم دقيقة ولا يستأخر. إننا نموت في الوقت الذي عيّنه الرب الجليل. فلا يمكن أن يحدث شيء دون إذنه جل جلاله وأمره. فلا نجاة من الموت إذا أقبل ولا اللقاء به قبل أوانه. فالذين تعقبوا الموت لم يظفروا به كما لم ينجوا منه بالفرار منه، ولما كان الموت لا يحل بأحد إلا في وقته المعين فالأفضل أن يموت المرء عزيزاً. فموت المسلم عزيزا يخدم الإسلام ويفيده بمثل فائدة حياته في الأقل. لأن موته عزيزاً يرفرف على رؤوس الذين يأتون من بعده راية ذات عبرة. بل يكون عبرة ودَرساً لكل ناظر إليه. نحن لم ننس سيدنا حمزة رضي الله عنه ولن ننساه أبداً. وكيف ننساه وقد سطر الملائكة الكرام بدمه في السماء: “أسَد الله”، بعد ما قُطّع أوصالا وهو يحارب بين يدي رسول الله. حتى اعتقد أناس وجرّب آخرون أن روحانية سيدنا حمزة -إذا ما استُمد منها- تتمثل لهم وتمدهم في أعمالهم. فذوو الأبصار المفتّحة يمكنهم أن يشاهدوه كل حين. فهو يحضر في أي مكان يذكر اسمه جزاء حسنا لمن ضحى بنفسه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه المرتبة والشرف السامي يمنح -منذ ذلك الوقت- لكل من ضحى بنفسه ومات عزيزا كريما في سبيل دعوة الإسلام العظيمة التي آمن بها.
الهوامش
[1] البخاري، أصحاب النبي 2؛ مسلم، فضائل الصحابة 1.
[2] انظر: البخاري، تفسير سورة التوبة 9؛ المسند للإمام أحمد، 1/4.
[3] انظر: سورة التوبة:26؛ مسلم، الجهاد والسير 58.
[4] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 11.
[5] تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 3/560-561؛ مسلم، الجهاد والسير 58.
[6] مجمع الزوائد للهيثمي، 6/83.
[7] مصنف بن أبي شيبة، 7/369؛ الطبقات الكبرى لابن سعد، 3/121.
[8] انظر: سورة الضحى:3.
[9] انظر: سورة التوبة:26.
[10] سيرة ذاتية لبديع الزمان سعيد النورسي، ص: 457.
[11] مسند أبي يعلى، 1/415؛ وانظر إلى: حياة الصحابة للكاندهلوي، 1/515-516؛ الإصابة لابن حجر، 1/191؛ صفة الصفوة لابن الجوزي، 1/313.
[12] حياة الصحابة للكاندهلوي، 1/516؛ صفة الصفوة لابن الجوزي، 1/616.
[13] البداية والنهاية لابن كثير، 4/49.
[14] البخاري، الجهاد 41؛ مسلم، فضائل الصحابة، 48.
[15] أنظر: أسد الغابة لابن الأثير، 2/250؛ كنـز العمال للهندي، 13/211.
[16] أسد الغابة لابن الأثير، 4/134؛ حياة الصحابة للكاندهلوي، 2/45.
[17] الطبقات الكبرى لابن سعد، 3/256؛ كنـز العمال للمتقي، 13/536-537.
[18] أسد الغابة لابن الأثير، 4/134-135؛ البداية والنهاية لابن كثير، 7/268.
[19] الطبقات الكبرى لابن سعد، 3/365.
[20] انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 1/383.