علي بولاج
كنت قد قلت: “بناء تحالفات مع أكراد شمال العراق وتحدّي العالم يعني أننا نقبل أن نتلقى صفعات من العالم وبلدان المنطقة”.
هل معنى ذلك هو أنه يجب على الأتراك والأكراد أن يتجنبوا تأسيس تحالف حقيقي بينهما؟ وهل يمكن أن ينزعج شخص كرّس حياته لخدمة مبدأ “الاتحاد الإسلامي” من تأسيس تحالف بين الأتراك والأكراد؟ وماذا يمكن أن يكون أكثر نفعًا من أن تنتهي حرب راح ضحيتها أكثر من 40 ألف شخص ويتصالح ويتعانق القوْمان المسلمان وينطلقا نحو رحلة بناء عالم جديد؟
لكن قصدي كان شيئًا آخر:
- عندما تعلنون “سنتحدّى النظام العالمي وسنقيم وحدة مع الأكراد”، سيبادر هذا النظام إلى ضربكم والأكراد معاً. وجميعنا يعلم أن قوة النظام العالمي قادرة على فعل ذلك. المنطقة الكردية بشمال العراق واقعة تحت السيطرة والحماية المباشرة للولايات المتحدة. وبعد أن سيطر تنظيم داعش الإرهابي على مدينة الموصل واقترب حتى مسافة 10 كم من أربيل، جاءت الولايات المتحدة وأنقذت المدينة بقصف جوي متواصل بينما كانت كوباني( عين العرب) على وشك السقوط. وعندما وضعت تركيا حزب العمال الكردستاني تحت ضغط أو لم تحقق ما كانت تريد في سوريا، دعت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى التدخل. وتضم مدن الأناضول منشآت تابعة للولايات المتحدة والناتو في 28 منطقة. ولا يخفى على أحد أن هذه الدول نصبت قنابل ذرية على الأراضي التركية لا تقع تحت سيطرة أنقرة.
لكن هذا لا يعني أننا سنبقى تحت سيطرة القوى الإمبريالية العالمية إلى أبد الآبدين. وربما يسهم مخطط استراتيجي ذكي وطويل الأمد في تحريرنا من هذه الوضعية. ولن يمكن تحقيق هذا إلا من خلال حشد الدول والشعوب الإسلامية على أرضية مشتركة من مبادئ الإسلام والتكامل الإقليمي والعدالة.
لكن نموذج “التمكين” السُنّي يعتمد على الحسابات والأعمال الحقيقية التي تتخطى فعاليات المغامرة والمخاطرة التي جعلت حياة ملايين البشر في خطر. فالمبادرات التي لا يدعمها العلم وتوازن القوى والحسابات والظروف تتحوَّل إلى تراجيديا كما رأينا في نموذج سوريا.
إذا أسس الأتراك والأكراد تحالفًا فيما بينهم رغم العرب والإيرانيين، فهل يمكن أن تتركهم دولُ المنطقة مثل إيران والسعودية والعراق وسوريا ومصر وحتى سائر الدول الإقليمية الصغيرة والكبيرة الأخرى ليحققوا ما يرغبون؟ فمن يفكر بهذه الطريقة إما أنه إنسان ساذج أو أنه يقع في خطأ حسابات جسيم مثل ذلك الذي رأيناه في سوريا.
إن اتحاد دول المنطقة يجب أن يستند إلى مبادئ من قبيل مشاركة جميع قوميات وشعوب المنطقة بحجم إمكاناتها المادية والمعنوية بشكل ديمقراطي، وتوحيد المصالح المشتركة بينهم، وعدم تعالي أحد الأطراف على الآخرين، وعدم السعي وراء فرض الاستبداد والسيطرة العلنية أو السرية. ألا يجب علينا أن نجمع الشعوب الإسلامية تحت راية الاتحاد الإسلامي بدلًا عن أن نضربهم ببعضهم البعض من خلال الرايات القومية المغلفة بغلاف الدين؟
لو كانت تركيا انتهجت سياسة إقليمية إسلامية لما كانت عُزلت إقليميًا وما كانت حدثت في سوريا ومصر تلك الوضعية المأساوية.و”طالما الإخوان المسلمين يعتبرونكم مرشدهم فلماذا لم تحذروهم وترشدوهم بتوجيهاتكم الصائبة؟”.
لقد تغيرت نظرة العرب إلى الأتراك بعدما لاحظوا فكرة “العثمانية الجديدة” و”قومية تركيا الجديدة” المطروحتين على أجندة أنقرة، ولم يعودوا ينظرون إلى الأتراك على أنهم أصحاب الريادة الداعين للنهوض بالمنطقة ككل. كما أصبحوا ينظرون إلى الأتراك على أنهم “مستعمرو ما بعد الحداثة الذين يحاولون بسط نفوذهم على المنطقة” عقب السياسة العقيمة التي دفع الشعب السوري المسكين تكلفتها باهظة.
لا شك في أن ذنب تركيا في سوريا لا يقل عن ذنب إيران، وما انتظره العالم الإسلامي من تركيا كان مختلفًا؛ إذ كان الأتراك أملًا كبيرًا بالنسبة للمسلمين. والآن فقدْ انتعشت ذاكرة العرب الجماعية التي تشكلت في الماضي القريب، إذ أصبحوا ينظرون إلى الزعماء الأتراك اليوم على أنهم أرواح “طلعت باشا” و”أنور باشا” و”جمال باشا” التي تجسدت من جديد أمامهم بعد 100 عام من موتهم. هؤلاء الثلاثة الذين قضوا خلال 10 أعوام على الدولة العثمانية التي حكمت المنطقة لنحو 600 عام. وكما قال الأديب التركي كمال طاهر فإنه “لم يكن من الممكن تصفية حتى محلّ بقالة في غضون هذه السنوات القليلة”.
لقد حاولت تركيا عام 2011 أن “تتحرّك بشكل مستقل” داخل النظام العالمي. لكنها فشلت لأن حملتها وطريقتها وحساباتها كانت خاطئة. ثم عادت إلى مبدأ “ابكِ على الحسين واعمل مع يزيد”، ودخلت مجددًا داخل الإطار الاستراتيجي الذي حدّدته القوى العالمية.
إن استقلال المنطقة وتحريرها مرهون بالتعاون المشترك بين الأتراك والأكراد والعرب والإيرانيين وتصورهم لمنطقة جديدة وتشكيلها من جديد في إطار التمسك بمبدأ التمكين والتدرج في التغيير على المستوى الشخصي والاجتماعي والسياسي.