مصطفى أونال
كان رئيس جهاز المخابرات التركي خاقان فيدان هو الأوفر حظًا بين مرشحي حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية المقبلة. ولقد شهدنا كتابة الكثير من السيناريوهات وحياكة العديد من نظريات المؤامرة حول ترشحه.
رأينا مَن قال إنه يستحق تولي إحدى الحقائب الوزارية، وآخرين قالوا إنه يستحق تولي منصب رئاسة الوزراء. وكان هذا التطور – في الواقع – حادثة نراها كثيرًا في عالم السياسة. ورأينا في الماضي استقالة رئيس هيئة أركان الجيش ليصبح نائبًا بالبرلمان. وكان داود أوغلو قد جعل فيدان يستقيل من رئاسة جهاز المخابرات بقوله “إنه يلزمني في السياسة”.
أما رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان فقد عارض استقالة فيدان من منصبه بقوله “لا يمكن قبول هذا”. ويبدو أن فيدان وداود أوغلو علّقا أملًا على أن يلين أردوغان أو أنهما اعتقدا أن بإمكانهما إقناعه بهذه الخطوة. لكن وتيرة الأحداث لم تتطور كما توقعوا. بل على العكس تمامًا، زاد استياء الرئيس وغضبه، ولم يخط خطوة واحدة إلى الوراء، واعتقد أن هناك لعبة حيكت ضده، ولم تنفع اللقاءات الخاصة ومحاولات الإقناع لإثنائه عن قراره.
تحدث أردوغان للمرة الأخيرة يوم الجمعة الماضي؛ إذ قال: “لقد قلت ما يجب عليّ قوله في هذا الصدد، وما بعد ذلك فهو أمر يعود بالسيد فيدان”. وكنت قد فسرت هذه العبارة التي قالها أردوغان في عمودي هذا على أنها رسالة إلى فيدان مفادها “انسحب من سباق الانتخابات البرلمانية”. ثم تطورت الأحداث بسرعة. وفي الوقت الذي اجتمع فيه أردوغان بمجلس الوزراء في القصر الجمهوري سحب فيدان ملف ترشحه في الانتخابات البرلمانية، “بناء على ضرورة رآها”. بيد أنه كسب الهوية الحزبية، كما انضم للشخصيات التي خضعت لعمليات الاقتراع، وزار المقر الرئيسي لحزب العدالة والتنمية في أنقرة، وأجرى زيارة إلى شعبة الحزب في العاصمة.
وعندما لم يستطع فيدان تخطي حاجز القصر الرئاسي، انسحب من سباق الانتخابات. ولاشك في أن هذه الخطوة تعتبر دليلًا على قوة الرئيس أردوغان الذي أعلن لأصدقائه وأعدائه أنه لم ينفصل عن حزبه. وبرهن على أن أحدًا لن يستطيع لعب دور في الحزب دون موافقته.
هل تتحدثون عن اليمين الذي أقسمه ليكون محايدًا؟ فهذا اليمين فقد معناه منذ فترة طويلة، ولم يبق أي حكم من الدستور في هذا الإطار. وإلا هل يمكن لرئيس جمهورية محايد أن يتدخل علانية في تعديل لوائح المرشحين لخوض الانتخابات البرلمانية عن حزب من الأحزاب؟
أما المشهد من جانب فيدان وداود أوغلو فليس براقًا على الإطلاق. فرئيس الوزراء داود أوغلو لم يستطع أن يدعم البيروقراطي الذي جعله يستقيل من منصبه بعدما قال إنه “يلزمه في السياسة”، وذلك بالرغم من التصريحات التي أدلى بها أمام الرأي العام، وأظهر أنه عاجز حتى عن دعم ترشيح بيروقراطي في الانتخابات البرلمانية، فلم يستطع أن يفي بحق المنصب الذي يتولاه.
لقد وجهت هذه الواقعة ضربة شديدة إلى صورة داود أوغلو واعتباره بعدما ذهبت تصريحاته الشديدة أدراج الرياح. لم يكن من اللازم أن يسحق داود أوغلو ويعجز إلى هذه الدرجة، بل كان يجب عليه أن يحفظ المظاهر على الأقل.
لم يستطع داود أوغلو أن ينبس ببنت شفة في مواجهة “تصفير” منصب رئاسة الوزراء أمام الجميع. وهو أكاديمي ألّف كتابًا حمل عنوان “العمق الاستراتيجي”، لكنه لم يستطع أن ينتج استراتيجية سطحية، ناهيكم عن الاستراتيجية العميقة التي تناولها في كتابه. كما لم يفكر في حساب ما سيقدم عليه من خطوات. ولم يستطع حل مسألة بسيطة كترشح شخصية بيروقراطية في الانتخابات البرلمانية، بل حوّلها إلى مشكلة عويصة. وكما أن هذه الواقعة كانت بمثابة “مراسم استعراض العضلات” بالنسبة لأردوغان، بينما كانت “وثيقة العجز” بالنسبة لداود أوغلو.
قال داود أوغلو في تصريح صحفي أدلى به أمس، الثلاثاء، بينما كان يتحدث عن مسألة فيدان إنه “ليس هناك اختلاف في وجهات النظر بينه وبين الرئيس أردوغان”. لكن الواقع أن الاختلاف في وجهات النظر بينهما ليس اختلافًا عاديًا، بل اختلاف عميق جدًا.. وإلا فلماذا ينسحب فيدان من سباق الانتخابات ليعود إلى منصبه السابق. ولقد حدثت كل هذه التطورات بسبب الاختلاف في وجهات النظر.
لا تعتبر هذه الوضعية مختلفة بشكل كبير بالنسبة لفيدان الذي كان يجب عليه إدارة تطورات الأوضاع بشكل أفضل. وكان هناك فارق يميزه عن البيروقراطيين الآخرين، لكنه لم يستطع أن يعكس ثقله كما يجب. فلم يقاوم للدفاع عن ترشحه في الانتخابات البرلمانية بالرغم من موافقة داود أوغلو. وعاد إلى النقطة التي بدأ منها. قال إنه “تعب كثيرًا”، وأراد أن يغير خط سيره. وما يشعر به من تعب ليس نابعًا من العمل، بل من خصوصية وظيفته الاستخباراتية. لكنه قَبِل هذه المرة العودة إلى منصبه القديم بالرغم من هذا التعب والإرهاق.
لايمكن لفيدان أن يعود إلى منصبه السابق ليقول “أين توقفنا لنكمل”. ربما تكون الأسماء والوجوه واحدة لم تتغير، لكن الكثير من المياه جرت كثير من الأمور وتغيرت. وهو نفسه لم يعد خاقان فيدان الذي كان في الماضي. كما أن الرئيس أردوغان ليس هو الرئيس الذي كان في السابق. فهذا الشهر الذي مر حدثت أشياء كثيرة، ولا يمكن أن تستمر العلاقات من النقطة التي توقفت عندها. كما أن “هويته السياسية” التي التصقت به ستناقش كثيرًا. فهو أصبح ينتمي إلى أحد الأحزاب السياسية.
لا يعتبر جهاز المخابرات مؤسسة عادية، فهو مؤسسة خاصة للغاية. وستجري مناقشة هذه النقطة كثيرًا من الناحيتين القانونية والسياسية، الأمر الذي سيصيب فيدان وجهاز المخابرات بالذبول.
لا أعتقد أن فيدان سيتولى منصبه لفترة طويلة، وأرى أن إعادته إلى منصبه ما هو إلا معادلة مؤقتة. فعقب التجربة الفاشلة لن يقبل فيدان أو أردوغان مواصلة الطريق على هذا النحو.
عاد فيدان إلى رئاسة جهاز المخابرات. لكن القضية لم تنتهِ بعد؛ إذ إن هذه المسألة ستفضي إلى تطورات جديدة. ولقد تحرّكت خطوط الصدع التي يستقر عليها حزب العدالة والتنمية مرة، ولا أحد يتوقع متى وكيف ستتوقف مرة ثانية…