ممتاز أرتركونه
لا يستطيع الرجل الوقوف في مكانه، وجني الثمار التي يرغبها في كل عمل يتدخل فيه، أي أنه ناجح في هذا الأمر، لكنه للأسف لا يعمل إلا لصالح نفسه فقط. ويا له من أمر محزن أن تجري التضحية بالمصالح العليا لتركيا في صالح تحقيق رغبات شخص وحساباته الشخصية، والأهم من ذلك لتغطية قلة حيلته وعجزه أمام الاتهامات.
وما اعتقالُ الصحفي محمد بارانصو ورفْعُ دعوى بموجب قرار صادر عن مجلس القضاء الأعلى بحق نواب العموم والقضاة الذين فتحوا التحقيق في قضية الفساد والرشوة يومي 17 و 25 ديسمبر / كانون الأول 2013 إلا إحدى الثمار الخبيثة للمؤامرة التي تزعم “إن الكيان الموازي نصب مكيدة للإيقاع بالعسكريين وتجريمهم”.
إن من يحاولون أن يفهموا كيف تغيَّر البعض بحيث أصبحوا غير معروفين في غضون العامين الأخيرين في تركيا يجب أن يفتشوا عن الواقفين وراء هذه المؤامرة وأهدافهم ونتائجها. وعليهم أن يتساءلوا أكثر شيئ عن تكلفة هذه المؤامرة بالنسبة لتركيا… إن الحساب الخاطئ سيتجلى عاجلاً أم آجلاً لا محالة، ولكن كلما تأخر ذلك سيدفع هذا الشعب الثمن باهظًا.
انظروا إلى المشاكل التي تعاني منها تركيا والفواتير التي تحملتها … فالمسؤول عن كل هذا شخص واحد فقط.
يقول رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان “إن الفوائد سبب، والتضخم هو النتيجة”. إن هذه العملية التي يقودها أردوغان تجاه رئيس البنك المركزي أردم باشتشي ونائب رئيس الوزراء علي باباجان ليست مسألة “الدجاجة والبيضة” العادية التي نعرفها. فارتفاع أسعار صرف العملات الأجنبية، لاسيما الدولار الأمريكي، أمام الليرة التركية يثبت مَن المحق ومن المخطئ في هذا المضمار.
يبدو أن رئيس الجمهورية في تركيا لديه صلاحية ليقول لرئيس البنك المركزي ووزير الاقتصاد “لقد حذرتهما، فليرتبا أمورهما قليلًا”. لكن للأسف فإن هذا الذكاء الخارق الذي يتمتع به الرئيس أردوغان لا ينعكس إطلاقًا على سعر صرف الدولار، فيستمر نزيف اقتصاد البلاد.
إن الزيارة التي قام بها أردوغان إلى السعودية وسيره على خطى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ليس له أي مقابل في تركيا سوى لأردوغان، ذلك أن هذه المسألة تعتبر مسألة شخصية خاصة به. كما أن قرار أردوغان المفاجئ حول زيارة الموصل والانضمام إلى التحالف الدولي لمكافحة تنظيم داعش الإرهابي حلٌّ وجده أردوغان لإنقاذ نفسه من العزلة الدولية. وما مقترح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتمرير خط أنابيب غاز عبر أراضي تركيا يحمل اسم “التيار التركي” إلا حالة “الانخداع” كما يعبر عنها شباب اليوم.
تعرِض السعودية خيارًا آخر على أردوغان لإنقاذه من المأزق الذي وقع فيه. انتبِهوا أنه لا تحدَّد أي سياسية من هذه السياسات داخل مؤسسات الدولة. فهذه السياسات تطبَّق من أجل تحقيق مصلحة على المستوى الدولي وإكساب الشرعية لشخصٍ اعتقل الصحفيين وألغى استقلالية القضاء وكمّم أفواه المعارضة وسيطرت عليه الشكوك وأصرَّ على إدارة البلاد وفق المنافع والأهواء الشخصية. ولا تطبَّق هذه السياسات من أجل عقل الدولة وبقاء هذه الأمة إلى أبد الآبدين، بل تطبَّق من أجل إبقاء شخص واحد مع إدارته التي قصم الفسادُ ظهرها. وانتبِهوا كذلك إلى أن انضمام تركيا إلى التحالف الدولي سيوازن عملية اعتقال الصحفيين.
إن المرحلة الأخيرة التي وصلت إليها مفاوضات حل القضية الكردية هي نتيجة لمحاولات أردوغان الشخصية المباشرة لا محاولات الحكومة. وهذا واضح من الاعتراضات التي قدّمها نائب رئيس الوزراء بولنت أرينتش على اللقاء الذي جرى في قصر دولمابهشة بصفته المتحدث الرسمي باسم الحكومة. كما أنه باستقالة رئيس المخابرات خاقان فيدان أصبحت مبادرة الدولة “في خبر كان”. أما حساب الفوز بالانتخابات بواسطة وعد أن “حزب العمال الكردستاني سيلقي سلاحه!” ما هو إلا حلم يمكن أن يحلم به شخص يظن أنه يمتلك جميع سلطات الدولة وصلاحياتها بين يديه.
نتحدث في هذا المقام عن شخص واحد يتدخل في كل شيئ يتعلق بالمشاكل الرئيسة الثلاث التي تواجهها تركيا، ويرفع الفاتورة التي سيدفعها الشعب التركي بأسره نتيجة كل خطوة يخطوها.
إن السياسة الإقليمية التي تتبعها تركيا وأداءها الاقتصادي ومفاوضات حل القضية الكردية تتحوّل شيئًا فشيئًا إلى مشاكل مستعصية بسبب الأخطاء التي يرتكبها شخص واحد بشكل ممنهج. المشكلة كبيرة للغاية.
ثمة وجهات نظر مختلفة شكّلتها مؤسسات الدولة وآلياتها فيما يتعلق بهذه القضايا الأساسية الثلاث التي تواجهها تركيا. ولا يمكن إدارة الدولة من خلال قرارات يصدرها شخص واحد. ولهذا السبب لا يمكن استخدام الميزان نفسه لقياس التصريحات التي تخرج من فم رئيس الوزراء الذي يسيطر على كل مؤسسات الدولة وبين ما يقوله رئيس الجمهورية “عديم الصلاحية والمسؤولية”. إن أردوغان لا يدير تركيا ولا يحدّد سياساتها، بل إنه يفسد الأمور ويعيق إدارة الدولة.
لا يستطيع أردوغان التحكم في الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار، كما أنه لم تعد له أية مكانة على المستوى الدولي، ولا يهتم بمفاوضات حل القضية الكردية إلا من خلال حسابات الفوز في الانتخابات من أجل البقاء في سدة الحكم. وإذا انهار قطاع المقاولات الذي يحاول دعمه ليقف على قدميه، سيكون اقتصاد أردوغان قد انهار تمامًا. أما مفاوضات حل القضية الكردية فقد تحوّلت إلى حساب مصالح يستند إلى الأهداف الانتخابية التي يسعى أردوغان إلى تحقيقها، ليكسب حزب العمال الكردستاني المزيد من الأرض التي فقدتها الدولة والشعب في تركيا بأتراكه وأكراده.
إن فقدان تركيا لدورها في المبادرات الإقليمية جاء نتيجة السياسات الخاصة بشخص واحد يعمل من أجل نفسه فقط. إنه يبذل جهوداً جبارة من أجل نفسه ومصالحه فقط بينما وطنه يفقد كل غالٍ ونفيس.