علي بولاج
وجَّه عبد الله أوجلان خطابه للمرة الثانية إلى حزب العمال الكردستاني قائلًا: “ضعوا أسلحتكم، واعقدوا المؤتمر الاستثنائي في الربيع”. لقد قوبلت هذه الدعوة بسعادة كبيرة من قبل المؤيدين للسلام ولاستمرار مفاوضاته.
ثمّة خاصية في دعوة أوجلان هذه المرة، ألا وهي إدلاء نواب حزب الشعوب الديمقراطية ومسؤولي حزب العدالة والتنمية بتصريحات مشتركة خلال مؤتمرٍ عقده الطرفان معاً. واليوم يشعر الجميع بفضول حول هذا الموضوع: ماذا سيكون تأثير هذه الدعوة على مفاوضات السلام؟
إن القناعة التي سيطرت عليّ عقب رحلة استغرقت يومين في مدينتي ديار بكر وماردين هي أننا نحن أمام “مشكلة ثقة” صعب للغاية حلها. وكان أوجلان قد وجَّه دعوة في ربيع عام 2013 قال فيها: “لتسكت الأسلحة، ولتتكلم الأفكار والسياسة”. وفي تلك الأثناء جرى استخدام مرجعيات إسلامية وتاريخية لتكون أساس تعاون جديد. بيد أن الحكومة التركية لم تقدِم على أية خطوة مطمئنة، كما لم يخفض حزب العمال الكردستاني قواته المسلحة إلى المستوى المنتظر. تحدثوا عن انسحاب بنسبة 20%، لكن التنظيم ضاعف عدد مقاتليه مقارنة بالماضي.
إذا استعرضنا هذه المسألة بشكل أكثر موضوعية سنرى أنه يمكن القول إن حزب العمال الكردستاني يعيش “عصره الذهبي”. فمن ناحيةٍ يجلس مع الدولة التركية على طاولة المفاوضات، ويدلي بتصريحات مشتركة مع مسؤولي الحزب الحاكم والحكومة، وإن كان من خلال حزب الشعوب الديمقراطية، ذراعه السياسي في تركيا، كما كسب أراضيَ واسعةً إضافة إلى الأراضي سبق أن كسبها شمال العراق. وحصّن التنظيم وجوده في ثلاث مقاطعات، وكسب من ناحية أخرى حيّز سيطرة جديدا بفضل التدخل التركي العسكري المباشر في سوريا، كذلك قدّم الدعم إلى القوات الأمنية التركية في أثناء عملية نقل ضريح سليمان شاه من خلال إنقاذ الجنود وتدمير مكان الضريح داخل الأراضي السورية. ومن الواضح أنه لولا وجود اتحاد الجماعات الكردية (PYD) لما استطاعت تركيا تنفيذ هذه العملية. لكن لو لم تكن الحكومة التركية قد فتحت الحدود لما كان من الممكن إنقاذ مدينة عين العرب (كوباني) من يد تنظيم داعش.
يبدو أن “حزمة الأمن الداخلي” هي المشكلة التي تقف أمام الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني في الوقت الحالي! إن الاحتجاجات التي شهدتها عدّة مدن تركية يومي 6 و 7 أكتوبر / تشرين الأول الماضي دفعت الحكومة إلى اتخاذ موقف صارم فيما يتعلق بهذه القضية. ولاريب في أن هذه الأحداث أخافت تركيا بأسرها. ومن هذا المنطلق تشدِّد حكومة حزب العدالة والتنمية دائمًا على مسألة “النظام العام والأمن”. أما السياسة الكردية فترى أن هذه الحزمة تعتبر تهديدًا يستهدفها وعملية إعدام موجَّهة للقضاء عليها.
لكن القضية أعمق من ذلك بكثير؛ إذ لا تستطيع تركيا تخطّي مرحلة الأزمة الأمنية بأية حال. وتكرِّر الحكومة الحديث عن مفاوضات السلام مع الأكراد منذ شهر يوليو/ تموز عام 2009، لكنها لا تقدِم على أية خطوة ملموسة من شأنها إيجاد حل نهائي وشامل لهذه الأزمة.
إذا نظرنا إلى الحكومة نجد أنها تقول “ليضع حزب العمال الكردستاني أسلحته ولينزل مقاتلوه من الجبال ثم لننظر ماذا سنفعل!”. ولهذا السبب فإن التنظيم لا يثق بالحكومة، ولا يريد أن يترك السلاح الذي يجبر المسؤولين الأتراك على الجلوس على طاولة المفاوضات.
أرى أنه من الصعب أن يضع التنظيم أسلحته مهما أطلق زعميه أوجلان من دعوات لتحقيق ذلك. فأحد سببي هذا هو انعدام الثقة تجاه الحكومة، أما السبب الآخر فهو عدم وجود حل ملموس ودائم يتفق عليه التنظيم الذي لا يوجد على أجندته سوى الكفاح المسلح. ولهذا السبب فإن السلاح هو سبب وجود حزب العمال الكردستاني، ولو تركه سيبدو وكأن كيانه ينهار.
وبطبيعة الحال فإن هذه الوضعية من الغموض والتردد كما أنها تكشف عن الفوارق الموجودة بين وجهات نظرِ كل من زعماء العمال الكردستاني في معسكرهم بجبال قنديل شمال العراق والزعيم المسجون في جزيرة إيمرالي عبد الله أوجلان، كذلك قد يؤدي ذلك إلى اختلاف وجهات نظرِ الساسة العاملين تحت مظلة حزب الشعوب الديمقراطية.
أمامنا انتخابات حسّاسة، ويبدو أن الطرفين سيحاولان مراوغة بعضهما البعض من خلال تكتيكات دقيقة متبادلة حتى موعد إجراء الانتخابات في شهر يونيو/ حزيران المقبل. انظروا إلى تجلّيات القدر، فحزب الشعوب الديمقراطية هو الحزب المفتاحي للانتخابات البرلمانية المقبلة. فلو استطاع الحزب تجاوز حاجز العشرة بالمائة من الأصوات لدخول البرلمان، فسيتبدّد حلم الرئيس أردوغان بإقرار النظام الرئاسي نظامًا للحكم. وليس إلى هذا الحد، فلو استطاع الحزب حجز ما يقرب من 60 مقعدًا بالبرلمان، سيكون من الصعب أن يحجز حزب العدالة والتنمية لنفسه 320 مقعدًا. وإن لم يستطع حزب الشعوب الديمقراطية تجاوز حاجز العشرة بالمائة من الأصوات لدخول البرلمان فإن الوضعية التي ستظهر حينها كفيلة بإصابة الجميع بالتوتر: ربما يقول العناصر الأساسية لحزب العمال الكردستاني وقتها “ما دمنا لا نستطيع تمثيل أنفسنا في البرلمان التركي، فسنعلن برلمانًا محليًا في كل مدينة فاز فيها حزب الشعوب الديمقراطية بالانتخابات البلدية، على أن يكون البرلمان المركزي في مدينة ديار بكر. كما سنضع اللوائح والقوانين الخاصة بالمنطقة، وسنجمع الضرائب وما إلى ذلك”. وربما يتبع ذلك الإعلان عن اتحاد يمكن أن يوصف بـ”الحكم الذاتي الديمقراطي” داخل الكيانات الموجودة اليوم فعليًا في مدينتي جيزرة ويوكسك أوفا جنوب شرق الأناضول، كما هو الحال في سوريا الآن.
لا يمكن لأحد أن يتوقع كيف سترد الحكومة الجديدة على هذا الأمر إن فاز العدالة والتنمية بأكثرية المقاعد البرلمانية والسيد أردوغان الذي يخطّط للإعلان عن النظام الرئاسي الذي يخوّله المزيد من الصلاحيات.