عبد الحميد بيليجي
اضطر ثلاثة من الذين يمثلون التيار المؤيد لحكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا إلى الهروب والامتناع عن الدفاع عن الواقعة المزعومة بشأن ضرب امرأة محجبة في منطقة كاباطاش في إسطنبول خلال برنامج “الرأي المعارض” الذي يذاع على قناة “خبر ترك” الإخبارية، ما ذكّرنا ببرامج الحوار التي كنا نتابعها في السهرة خلال تسعينيات القرن الماضي.
كنا نتابع الأفكار والتوجهات السياسية المختلفة في الماضي عبر الصحف والمجلات، لكن هذه الأفكار كانت تبقى دائمًا داخل إطار ضيق ولم يكن من السهل أن تصل إلى الجماهير. ذلك أن وقتها لم يكن هناك إنترنت، كما كانت الدولة تسيطر على الإذاعة والتليفزيون.
لقد قاد الرئيس الراحل تورجوت أوزال إصلاحات عدة كان أهمها إنهاء احتكار الدولة لوسائل الإعلام، لتدخل المحطات التليفزيونية والإذاعية الخاصة حياة المواطن التركي الذي بدأ يطلع بسهولة للمرة الأولى على أفكار مختلفة بفضل هذه الخطوة على الرغم من الدستور آنذاك. وكانت برامج مثل “ديناميت” و”الكرسي الأحمر” و”ميدان السياسة” من البرامج التي ناقشت بحماسة العديد من القضايا التي كانت لا تناقش أبدًا في الماضي.
وخلال المسيرة التي نقلت الوسط المحافظ إلى المركز اليوم كان هناك نصيب كبير للمبارزات الفكرية التي جرت للمرة الأولى في ظل ظروف عادلة مع النخب العلمانية. وفي برنامج حواري كانت النخب التي تمثل الحداثة والنظام الحاكم تتساقط تباعا في مواجهة الأسماء المحافظة أو الديمقراطية أو الإسلامية. ولاشك في أن هؤلاء (النخب العلمانية) هم من كانوا يعرفون الأفكار الصالحة والقيم الراقية في العالم، وهم من كانوا يحددون القيم “المقبولة”. لكنهم لم يستطيعوا تجديد أنفسهم وانقطعوا عن العالم بسبب الخمول الذي أصابهم جراء بقائهم في السلطة لمدة طويلة. وعلى عكس ذلك تمامًا، انفتح “زنوج” الأمس على العالم وصاروا يتحدثون عن القيم والديمقراطية وحقوق الإنسان المتبعة في العالم الجديد. ولقد انتهت “الموضة” القديمة، وكانوا ينتصرون تقريبًا في كل نقاش في مواجهة الأفكار الاستبدادية.
لقد برز تيار الديمقراطية الذي كان يمثله حزب الوطن الأم بزعامة أوزال، وتولى بعد ذلك مهامه حزب العدالة والتنمية، بصفته التصالحية مع القيم الدينية، لكنه كان في الوقت نفسه متوافقًا مع القيم الفكرية والعالمية. وكان هذا التيار يستمد قوته، وإن كانت ضعيفة أمام الدولة، من تمثيل موقف صحيح ومحق على المستوى العالمي. وكان طريق هذا التيار مفتوحًا لو استمر على هذا المنوال. وكانت فائدته تعود – في الوقت نفسه – على تحول تركيا إلى دولة أكثر ديمقراطية وثراء وتكاملًا مع العالم.
يعتبر اضطرار 3 ممثلين عن حزب العدالة والتنمية إلى الهروب من برنامج حواري نتيجة طبيعية لفقدان الشرعية الفكرية والأخلاقية. ويرى الجميع في تركيا أن الدفاع عن الحكومة في البرامج الحوارية أصبح صعبًا جدًا. ولا يظهر أمامنا على شاشات التليفزيون قادة الحزب الحاكم منذ زمن طويل في برنامج كهذا يشارك فيه منافسوهم وصحفيون حقيقيون. أما أغلب من تكرّم وشارك مِن ممثلي السلطة فيتطلعون إلى بعض الأهداف المقيتة مثل سحق خصومهم بتأثير تكبر السلطة. وبدلًا عن أن يقدموا مرجعيات من العالم الديمقراطي، يهرعون إلى صياغة نظريات المؤامرة التي كانت تتبناها النخب القديمة من خلال عبارات من قبيل “العالم كله يعادينا”.
لاريب في أنه من الصعب الدفاع عن موقفٍ فَقَد تفوقه الأخلاقي والفكري جراء البقاء في السلطة لزمن طويل ما يؤدي إلى النوام والتكاسل واللامبالاة. بيد أن الحكومة نفسها كانت ضعيفة جدًا في مواجهة “الدولة القديمة” حتى عام 2010، وتعرضت لضغوط مثل محاولات الانقلاب وإغلاق الحزب. لكنها كانت تتمتع بشرعية ودعم قوي داخل تركيا وخارجها من الناحيتين الأخلاقية والأيديولوجية بفضل توجهها الديمقراطي. أما اليوم فهي ضعيفة وهشة لعدم تمثيلها الشرعية الديمقراطية ولبعدها عن القيم العالمية، بالرغم من سيطرتها على جميع مؤسسات الدولة.
بالرغم من اعتراف محامي أحد الشخصيات التي ضخّمت كذبة الاعتداء على المرأة المحجبة في كاباطاش بأنها كانت زائفة واعتذارِ العديد من الصحفيين الذين كانوا وسيلة لنشر هذا الكذب للرأي العام، فإن هناك مؤشرات واضحة على فقدان الحكومة شرعيتها الأخلاقية والفكرية كالدفاع عن كذبة الاعتداء على المرأة المحجبة، وعن الحزمة الأمنية التي ستحول تركيا إلى دولة بوليسية والتي ليس لها مثيل في أي مكان بالعالم؛ إذ عارضها العديد من الحقوقيين حتى المقربين منهم إلى الحزب الحاكم مثل البروفيسور آدم سوزو أر، ومحاولة قمع الصحفيين المعارضين، واتهام كل مَن يقول الحق بخيانة الوطن، والقول بإنهم لايهتمون بردود أفعال العالم الديمقراطي واتهامه بالغيرة في الوقت الذي تتزعزع فيه مكانة تركيا في الشرق والغرب، ومحاولة التستر على فضيحة الفساد باتهامات تدبير الانقلاب بدلًا عن التحقيق فيها.
إن الادعاء الملفق بشأن محاولة اغتيال سمية ابنة الرئيس أردوغان والأكاذيب والافتراءات والإساءات التي لا نهاية لها، واستغلال القيم الدينية والتاريخية، والتدابير الأمنية التي تستهدف النيل من كل المعارضين ما هي إلا عبارة عن محاولة التستر على العيب الذي تسبب به فقدان هذه الشرعية. وكلما تغاضينا عن رؤية المشكلة الأساسية فلن يفيدنا هذا الطريق سوى في زيادة معدلات الفساد والإضرار بالمصلحة العامة. فيا ليتنا نستطيع علاج السرطان بلاصقات الجروح العادية التي نشتريها من الصيدلية!