عبد الحميد بيليجي
الجميع متأسف ومستاء من الابتعاد عن الديمقراطية وتعطيل الدستور وتحدي قرارات المحكمة ومن الضغوطت المكثفة على الإعلام وعالم الأعمال والمجتمع المدني والأحزاب.
الذين كانوا بالأمس يعانون من التهميش والتحقير والإهانة ومنهم من دخل السجن لأنه قرأ مقطعا شعريا وبعد ذلك أدركوا قيمة الديمقراطية وحرية الفكر ثم ادعوا أنهم خلعوا ثيابهم القديم ونالوا إعجابا كبيرا في الداخل والخارج من خلال الإصلاحات في طريق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي غيروا اليوم وجهتهم مرة أخرى وبدأوا يفسدون بسرعة ما أصلحوا طوال سنين ويقلبون كل شيئ رأسا على عقب. ربما علينا أن نترحم بدلا من أن نغضب على شخص أو فريق أو حزب تغير كل هذا التغيير حيث كان ينتقد طوال سنين حقبة حكم الحزب الواحد، ثم أقدم على أعمال لاتختلف عن أعمال تلك الحقبة.
إن أناسا كانوا يستعلون بالأمس على من سواهم ويدَّعون التفوق الديني والأخلاقي لأنفسهم على العالم كله؛ لكنهم تخلوا اليوم عن القانون وعن كل القيم الأخلاقية والإنسانية والدينية بمجرد سيطرتهم على القوة؛ ويقولون اليوم نقيض ما كانوا يقولونه بالأمس في كثير من المواضيع، قد يكون من الأنسب أن نشفق ونترحم عليهم على وضعهم هذا.
كان أردوغان يصف عصمت إينونو العام الماضي بأنه ديكتاتور، ويقول في حقه: “إذا أردتم أن تروا فاشيا فانظروا إلى صور عصمت إينونو في مكاتبكم”. لكن أردوغان نفسه وصف إينونو نفسه بعد 5 أشهر بقوله: “إن رئيس الجمهورية الثاني عصمت إينونو رجل دولة وسياسة بارز لما قدمه من جهود في تحقيق النصر في الحرب الوطنية، وهو أحد الشخصيات المهمة في تاريخ جمهوريتنا”.
يمكن للإنسان أن يعيد النظر في أفكاره عبر محاسبة صادقة في نفسه في ضوء التجارب التي يعيشها. ولكن إذا قال اليوم أحد كلاما يناقض تماما ما قاله بالأمس فينبغي أن يُشفق عليه بل أن يساعَد ليتغلب على مشكلته هذه. فقد كان يقول بالأمس “إن النظام الرئاسي من وصايا الإمبريالية الأمريكية”. لكنه اليوم يرى أنه لابد من النظام الرئاسي.
فبالأمس دخل السجن لأنه تفوه بمقطوعة شعرية، ولكن اليوم يُحكم على صحفي بالسجن لمدة 5 سنوات بسبب تغريدة على تويتر حول قانون الاشتباه المعقول الذي وضعه هو (أردوغان) بنفسه. وتقتحم قوات الأمن والشرطة الصحف. كما أنه يقول: “يجب تنفيذ عملية ضد الكاتب الصحفي فاتح ألطايلي” بسبب مقال كتبه. وفجأة يتوقف نشر مقالاته.
كان يبالغ في الإطراء على المدارس التركية بالأمس، والآن يعمل جاهدا على إغلاقها.وبالأمس كان يقول عن المتطوعين في حركة الخدمة: “نحن جنود ثابتون في نفس المهمة القلبية”، والآن يصفهم بأنهم: “فيروسات، حشاشون ، علق، إرهابيون..”
وبالأمس كان يقول: “يكفي هذا القدر من الغربة ولتنتهي” وهو يدعو الأستاذ فتح الله كولن للعودة إلى تركيا. واليوم لايتوانى عن استغلال امكانات الدولة للمطالبة بطرده خارج الحدود الأمريكية، ويدعي أن أوباما رحب بالمطالبة بإعادة كولن، ويكذبه البيت الأبيض في ادعائه.
وقد انتقد كولن لعدة أشهر لأنه ظهر في الصور واقفا مع البابا ولأنه سعى لتأسيس الحوار بين الأديان، ثم وجَّه رسالة دعوة للبابا لزيارة تركيا يمتدحه فيها مخاطبا إياه بلقب “صاحب القدسية” واستضافه في القصر الأبيض في أنقرة.
بالأمس كان يقول: “من يتفاوض مع حزب العمال الكردستاني عديم الشرف”، ثم أصبحت مباحثات سجن إيمرالي (محبس أوجلان) من أولويات سياسته. وحينما كان يجري المباحثات مع العمال الكردستاني كان يعتبر العمال الكردستاني وداعش سواء في قضية كوباني من جانب آخر.
بالأمس كان يقول إنه المدعي العام في قضية شبكة أرجينكون، وحين بدأت عمليات التحقيق في عمليات الفساد في 17 ديسمبر/كانون الأول تحولت القضايا التي كان يسميها بـ”الوصاية العسكرية” في لحظة واحدة إلى “مؤامرة على الجيش”. كانت مكافحة الفساد أهم قضية بالأمس، أما اليوم فأصبح الذين يكافحون الفساد يوصفون بأنهم “انقلابيون”. ولايزال التستر على عمليات الفساد مستمرا على الرغم من معارضة نواب من حزب العدالة والتنمية نفسه.
كما أن الكتاب الأحمر الذي أصدره مجلس الأمن القومي إبان انقلاب 28 فبراير/ شباط 1997والذي يعتبر “الرجعية الدينية” عدوا داخليا، كان يراه أردوغان أيضا سيئا جدا بالأمس، لكنه اليوم يعتبره من أهم وسائل إبادة أحد أطياف المجتمع. وكان التصنيف ومطاردة الساحرات من الأمور المقززة في رأيه، لكنه اليوم يعترف بمطاردة الساحرات والتصنيف على كل المستويات.
وكان يشتكي من عمليات التنصت غير القانونية لكنه في الوقت نفسه يتحدث في كل فرصة عن شريط الفيديو المسجل لدنيز بايكال (رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض السابق) ويذكر بها دائما ليستفيد منها في حملته على معارضيه. ويعرقل محاكمة موظفي المخابرات الذين ثبت أنهم قاموا بعمليات التنصت غير القانونية، ويوافق على إصدار القوانين التي تُسهِّل التدخل في الحياة الخاصة للمواطنين.
كان يعارض تسييس القضاء، لكنه لم يجد حرجا في ملاحقة أيدين دوغان في المحكمة العليا عن طريق وزير العدل.
ومن جانب كان يضرب المثل بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان قوته بضع تمرات وهو يأمر من جانب آخر ببناء قصر بلغت تكلفته 1.5 مليار مع وجود قصر تشانكايا الرئاسي في أنقرة.
كان يعارض إسرائيل بشدة في تصريحاته لكن علاقات التجارة مع إسرائيل كانت تتضاعف في عهده، ولم يُصادق على النشرات الحمراء التي صدرت بحق الجنود الإسرائيليين الذين قتلوا المواطنين الأتراك في سفينة مافي مرمرة (مرمرة الزرقاء). وكان اتهامه لرجل الأعمال “كوتش” بأنه انقلابي بسبب دعمه أحداث حديقة جيزي في إسطنبول في 2013 لكنه يحضر حفل افتتاح أحد مصانعه ويمنحه درعا تكريميا. كما أنه ادعى أن المتظاهرين في جيزي أساءوا لسيدة محجبة في منطقة كاباتاش بإسطنبول وثبت فيما بعد أن ادعاءه ذلك أيضا ما كان يعكس الحقيقة.
وكان أول زعيم مسلم نال وسام الشجاعة الفائقة من إحدى مؤسسات اللوبي اليهودي في أمريكا.
كان معارضا للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لكنه عندما مات ملك السعودية أكبر الداعمين للسيسي لم يكتفِ بحضور جنازته فحسب بل أعلن حالة الحداد في البلاد لمدة يوم.
وكان قد أعلن عن طريق وسائل الإعلام الموالية له أن المفكر الاسلامي التركي فتح الله كولن عميل للمخابرات الأمريكية CIA ثم أعلن أن المخابرات التركية والمخابرات الأمريكية ستتعاونان فيما بينهما ضد كولن. وإن صدق في ادعاءه هذا فإنه يعني أن المخابرات الأمريكية ستناضل ضد أحد عناصرها. والآن يحاول اختلاق رابطة بين حركة الخدمة والموساد الإسرائيلي دون إبراز أي دليل. ومن يدري بأية منظمة سيربطه مستقبلاً لاختلاق صورة أخرى.
ولو كان التناقضات بين أفكاره بالأمس وأفكاره اليوم أو بين تصريحاته وأفعاله بين الأمس واليوم عبارة عن مثال أو مثالين لكان بإمكاننا التغاضي عنها. ولكن القائمة طويلة جدا، حيث لاتدع مجالا للشك في أننا كمجتمع نواجه مشكلة حقيقية وعويصة للغاية.