بقلم :مصطفى أديب ييلماز
نشرت قناة (BBC) مقابلة صحفية أجرتها مع الرئيس السوري بشار الأسد يوم الاثنين الماضي. لكنه تقرير يستحق أن يُدرَّس في كليات الاتصالات حيث تم اللقاء بين رئيس تحرير قسم الشرق الأوسط في القناة البريطانية “جيريمي بووين” والأسد في القصر الجمهوري بدمشق.
تخيلوا أنكم ستتحدثون إلى أحد أسوأ الديكتاتوريين في العالم حيث يترأس دولة تعاني من حرب أهلية راح ضحيتها ما لايقل عن 200 ألف إنسان. وذلك باسم إحدى أرقى المؤسسات الإعلامية في العالم. فإنكم بذلك قد تمنحونه فرصة لإجراء حملة إعلامية من خلال الأسئلة التي توجهونها أو لاتوجهونها أو لا تستطيعون توجيهها إليه.
عليكم أن تتقنوا واجبكم على أكمل وجه وأن تجمعوا قواكم وأن تكونوا في منتهى الوضوح في طرح أسئلتكم. ولكونكم واحدا من البشر قد تكونون في حيرة أو دهشة من أمركم إزاء الدماء التي تسيل في سوريا. لكن هذه المشاعر يجب ألا تطغى على هويتكم الصحفية. وعليكم المحافظة على موضوعيتكم. ويُتوقع منكم أن تكونوا ذوي معرفة ودهاء وكلام ومنطق. حقا إن المهمة كانت معقدة وتُعد مسؤولية كبيرة. ورغم هذه المصاعب إلا أن بووين أبدى أداء منقطع النظير في إجراء اللقاء الذي استمر 26 دقيقة. وهو أولا صحفي بريطاني واثق جدا، ويعرف جيدا ما يقوله وما يريده، وكان يوجه أسئلته بأسلوب متميز. ثم إنه تميز بالإصرار في أسئلته، حيث كان يُظهر استياءه مباشرة حيال الأجوبة التي لاتعجبه، ويسأل أسئلة أخرى للحصول على إجابات أفضل، فيوجه الأسئلة من زوايا مختلفة. وهو يذكرني بالصحفي التركي المشهور الراحل محمد علي بيراند. لكنه يخاطب محاوره بأسلوب أكثر جمودا. فمن الواضح أن غايته هي أداء المهمة الصحفية.
ألح الصحفي البريطاني كثيرا على الأسد في 3 مواضيع: استخدام الأسلحة التي لاتحدد الهدف بدقة كالبراميل المتفجرة؛ واستخدام الأسلحة الكيميائية لمسح بعض أماكن التجمع البشري؛ ومنع المنظمات الإغاثية من إيصال المواد الغذائية والأدوات الطبية إلى الأماكن التي تسيطر عليها المعارضة. في حين أن الأسد يصر على إنكاره المستمر لكل تلك التهم. فلو سألتموه لقال إن بلاده تواجه حربا مع” الإرهابيين” ضمن حدودها المشروعة، ولكن كما يحدث في كل حرب فإن كثيرا من المدنيين يفقدون حياتهم دون قصد. وباختصار فإن ما يقوله الأسد هو من قبيل الدفاع عن “الإرادة الوطنية” التي اعتدنا على سماعها كثيرا. فعلى سبيل المثال يقول: “إذا كنا نحن نقتل الناس فلماذا يدعموننا إلى الآن”؟ كيف يقيس الدعم؟ ربما هو يفكر فيما حدث في انتخابات الرئاسة في يونيو/ حزيران الماضي.
لنتذكر الوضع السوري الذي لايراقبه مراقبون مستقلون! فحسب معطياتهم نجح بشار في الانتخابات الرئاسية بحصوله على 88.7 من الأصوات وقد جرت تلك الانتخابات في بلد يعاني منذ 4 سنوات من الحرب الأهلية وقد شارك في الانتخابات 73.5% من المواطنين وهي نسبة مرتفعة. فقلنا: “حقًا إنها الإرادة الشعبية أو الوطنية”.
لكن بووين لايقتنع بما يقوله الأسد للدفاع عن نظامه. ويذكر له أمثلة من تقارير وتصريحات ممثلي بعض المنظمات مثل منظمة هيومن رايتس ووتش، والأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، ومنظمة الصحة العالمية.
ويقول للأسد بأسلوب لبق: “الأمور ليست كما ذكرتَ”. إلا أن أسلوب الأسد لا يتغير أبدا. فهو يرى أن كل تلك التصريحات والتقارير منحازة إلى المؤامرة الكبرى التي تتعرض لها بلاده. وكأنهم يريدون النيل من “مسيرة سوريا الكبرى” أو الحيلولة دون تحقيق هدفها في سنة 2123 على سبيل المثال (لا وجود لهذا الهدف في الواقع) … إلخ.
وتتصاعد وتيرة الحوار بين الحين والآخر. فمثلا يوجه بووين لبشار سؤالا حول ما إذا كان مضطرا لخوض الانتخابات من أجل المشروعية لحكمه ليختار السوريون بينه وبين من يحاربه من المعارضة المعتدلة أو المتطرفة مثل داعش؟ طبعا الأسد لايفرق بين المعارضة المعتدلة والمعارضة المتطرفة فكل المعارضين إرهابيين بالنسبة إليه. ولكن بووين يقول له إنه التقى بكثير من المقاتلين المعارضين الذين أكدوا له أنهم ليسوا متطرفين مثل داعش. ويرد زعيم النظام السوري على سؤاله بسؤال فيقول: “أين هم هؤلاء المعارضون المعتدلون”. إلا أن بووين يحرجه من جديد فيقول: “أتقولون ذلك وأنتم تقتلونهم”؟ ويسأله بشار عن مدى مصداقية مصادره، فيحرجه مجددا ويقول: “هل كلهم يكذبون، هل كلهم كذابون؟… هذا غير معقول”.
ولايبدي الأسد أي غضب إزاء الأسئلة الصعبة، ويحاول الإجابة عن جميع الأسئلة. فمثلا حين قرأ عليه بووين العبارات المفعمة بأحاسيس الأسى والغضب لمعلم قُصفت مدرسته؛ يفيد بشار بأن قصف المؤسسات التعليمية عملية ليست عقلانية ولاتعود بالنفع على أية حكومة ويقول: “لماذا نفعل شيئا كهذا وما الذي سنستفيد من فعله”؟
والجميع يعلم أن الدكتاتوريين يغلقون المدارس ويفجرونها لتحقيق مآربهم.
وكانت اللحظة الأخيرة من اللقاء هي اللحظة الوحيدة التي تلعثم فيها الأسد طوال اللقاء الذي استمر 26 دقيقة. إذ يسأله بووين عما يقض مضجعه في الليالي؟ في البداية يتوقف زعيم النظام البعثي عن الإجابة. بل يكرر السؤال بحيرته المعتادة ليكسب مزيدا من الوقت ثم يقول: “أنا أيضًا إنسان. فأي شيئ يمنع الإنسان من النوم يمنعني أيضًا. أمور الحياة وما إلى ذلك…” ثم يسدل الستار وتنطفئ الأضواء.
إن هذا التقرير وخصوصا نهايته ذكرني بمشهدين في تركيا يجب أخذ العبر منهما. أولهما هو أن صحفيا مثل بووين بل أكبر منه سنا وهو محمد بارلاس (بووين عمره 55 وبارلاس عمره 73) سأل أردوغان عن سر الطاقة الوظيفية والقدرة على التحمل وذلك في لقاء تلفزيوني بتاريخ 6 مارس/ آذار 2014 حيث قال: “أنا متشوق لمعرفة كم ساعة تنام في اليوم؟ فدائما تكون في التظاهرات. فما الذي تأكله حتى تكون لديك هذه الطاقة”؟ والمشهد الثاني هو السؤال الذي وجهه خاقان البيرق لأردوغان بعد أسبوعين من اللقاء السابق وقبيل المرحلة النهائية للانتخابات. وقد كان سؤاله مدروسا حيث قال: “إن أكبر مشكلة بالنسبة لي هي أن أكون كاتبا صحفيا في دولة أنت رئيس وزرائها، فكلما فكرت في مشروع رأيت أنك قد أنجزته”.
فلو نظرتم إلى هوية كل منهم فبارلاس وبووين والبيرق كلهم صحفيون. إذن فلابد من وجود كيان مواز عالمي!