مصطفى أونال
سألت رئيس التحرير أن يقترح علي موضوعا أكتب عنه. فقد كانت كل المواضيع والتطورات في أنقرة مهمة واختيار واحد منها صعب بالفعل.
فالأخبار المهمة كانت متعاقبة. وعبارة”خبر عاجل” ما كانت تغادر شاشات القنوات التلفيزيونية. وكان يوم أمس اليوم الأخير لاستقالة المسؤولين الراغبين في الترشح للانتخابات. فقال لي رئيس التحرير: “أكتب مقالا تتحدث فيه عن كل المواضيع “. الفكرة لم تكن سيئة ولكني كنتُ أنوي الكتابة حول خاقان فيدان رئيس جهاز المخابرات الذي استقال ليترشح في الانتخابات البرلمانية التي ستجرى في 7 يونيو/ حزيران المقبل.
وكان رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان قال وهو في طريقه إلى جولة في دول أمريكا اللاتينية: “لا أرى ترشح فيدان مناسبا”. وكان أردوغان عادة يتحدث في طريق عودته إلا أنه هذه المرة شذ عن القاعدة وأجاب عن أسئلة الصحفيين مبكرا في طريق ذهابه. ولم يكن الرأي العام حينها قد استوعب تماما حادثة استقالة فيدان. حيث كان يحاول فهم ما يجري حوله من الأحداث.
هل حدثت هذه الدهشة لدى الرأي العام فقط؟ لا، فثمة استغراب في صفوف العدالة والتـنمية أيضًا. إذ إن أردوغان معارض لترشح فيدان. وروي أنه قال له: “جهاز المخابرات ليس مكانا عاديا عليك أن تستمر فيه”. لكن رغم ذلك قال فيدان إنه تعب ويريد الاستقالة. ويقال إن هناك من وعده ببعض الوعود، من الذي وعد؟ وما هو الوعد؟ ذلك غير معلوم. قرأت كلام رئيس الجمهورية بتمعن، فلاحظت أنه لم يكن كلاما للاعتراض البسيط. بل ثمة انكسار خاطر وغيظ بارز في كلمة أردوغان. ويمكن أن نتحدث عن خيبة أمل عميقة يشعر بها أردوغان. كما أن هناك غضبا وتذمرا لم يجد حاجة لإخفائهما. لأن كلامه لم يلقَ اهتماما عكس ما اعتاد عليه، بل قوبل برفض وقيل له هذه المرة، لا.
والشعور بالتذمر أمر عادي بالنسبة لشخص اعتاد على سماع كلمة “نعم”. فلم يحس بالتذمر تجاه فيدان وحده، بل تجاه رئيس الوزراء داود أوغلو أيضا. نعم ليست هذه أول مرة يختلف أردوغان وداود أوغلو في الرأي ولكن الكلمة النهائية كانت للقصر دائما. إلا أن الأمر مختلف هذه المرة. وللمرة الأولى يقول داود أوغلو: “لا” ويخالف رغبة القصر. ولم يكتف بقول لا، بل أيده بفعله. فهل يمكن تفسير ذلك كمناهضة منه أو عصيان للرئيس؟ لا يمكن لنا أن نجزم بأن الأمر قد بلغ هذا الحد. من الأنسب أن نقول إنها مشكلة قد تتحول إلى أزمة فيما بعد.
إن الرئيس سيجد صعوبة في تقبل هذا التطور. وليس من الصواب وصف المشهد بأنه عبارة عن عراك مدروس مسبقا. إن الرئيس وصف فيدان بأنه كاتم أسراره. والكل يعرف أنه صار ممتلئا بالأسرار تماما. ولا يقول فيدان “إنني تعبت” عن عبث. ولا أظن أن أعماله الكثيفة وحدها هي السبب في تعبه. لأن الحفاظ على الأسرار مهمة صعبة وحمل ثقيل يتعب الإنسان ويقصم ظهره أكثر من العمل. ولاشك في أن أسرار أردوغان أثقل من أي حمل آخر.
هل ستحدث مشكلة في ترشح فيدان؟ لا أظن ذلك؟ وليس من السهل التخلي عنه بسبب الأسرار الذي يعلمها. لكنني لا أستطيع أن أقول الشيئ نفسه في موضوع وزارته. و”القرار لرئيس الوزراء داود أوغلو…” هل حقا هذا صحيح؟ لا، فالقصر سيتدخل في القوائم اسما اسما حتى النهاية. والقول بما يناقض ذلك يعني عدم المعرفة بحزب العدالة والتنمية. لا تشكوا أبدا من أن أردوغان سيتدخل فيما يتعلق بانتخابات 7 يونيو/حزيران بشكل أكثر من أي انتخابات سابقة.
ويمكنني القول استنادا إلى الجو المتوتر في أنقرة إن مسألة فيدان ليست حادثة سياسية بسيطة. فقد تصل إلى مرحلة أبعد من عضوية في البرلمان.. على كل يبدو أننا سنكتب مرات كثيرة حول هذا الموضوع.
لقد تقاعد رئيس المحكمة الدستورية هاشم كليتش وسلم مهامه لخلفه قبل موعده ولم ينتظر بضعة أيام أخرى. وتذرع بانتخاب الرئيس الجديد. فترك عمله دون أن يكمل الأيام الباقية. وكان على طاولته العديد من القوانين المهمة. وليته ختم على تلك الملفات، مثل مسألة إغلاق معاهد دروس التقوية، بنظرته الحرة. وقد ألقى خطابا طويلا في حفل وداعه. وأشار إلى مواضيع لافتة تستحق أن تُسجل في التاريخ، وقال: “لقد تعرضت للضغط في عهد الحكومات كلها”، وأضاف: “ربما كلامي هذا لايروق لبعضهم” قاصدا به الحاضرين من حزب العدالة والتنمية.
وهو محق فيما قال. فلم يكن حزب العدالة والتنمية وفيًّا ومنصفا مع كيليتش الذي استفاد الحزب الكثير من موقفه الديمقراطي الحر. وقال أيضا: “لايمكن لتركيا أن تتقدم وتتطور بجهاز القضاء الذي يرثى لحاله”. ونوه إلى الخطاب المقزز الذي يتفوه به الساسة. كما ردَّ ردا صارخا على أعضاء حزب العدالة والتنمية الذين وصفوه بالانقلابي أثناء المناقشات حول إحالة الوزراء المتهمين في قضية الفساد إلى محكمة الديوان العليا. ودعاهم إلى أن يحاسبوا أنفسهم في ضمائرهم.
وقد انتهت مهمة كيليتش في المحكمة الدستورية لكنه لن يصمت. وإن تقاعده في 10 فبراير/ شباط يشكل علامة استفهام. كما قال: “أنا لن أكون موجودا في المشروع السياسي”. والظروف غير مناسبة.
كنتُ أود الحديث عن استقالة المسؤولين من أجل الترشح لعضوية البرلمان ولكن الحديث طال. وأكتفي بأن أقول إن القليل منهم فقط كان لهم الحظ في الموافقة على ترشحهم من حزب العدالة والتنمية. لكن حتى تقديم الطلب بالترشح وحده له مكاسب سياسية كذلك. وإن أغلب الاستقالات كانت للاستفادة من إبداء المحبة للحزب الحاكم للاستفادة منها بعد الانتخابات.
ونظرت في كلام رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو للكتلة البرلمانية فلم أجد أنه تحدث ولو بجملة واحدة حول مسألة فيدان في كلمته. ولم يلمح إليها حتى ولو كان بالإيماء.