بقلم: عبد الحميد بيليجي
عندما كانت تركيا تتقدم في مجال الديمقراطية والقانون كان يُشار إليها بالبنان ليس في الغرب فحسب بل في الدول الإسلامية أيضًا.
تركيا التي تولي اهتماما للعلاقات مع الاتحاد الأوروبي والعالم الإسلامي كانت الدولة الوحيدة التي لها علاقات جيدة مع الجميع في الشرق الأوسط. وكانت تركيا الأكثر شعبية في المنطقة وفق كثير من الاستطلاعات التي تجس نبض الشارع.
وكانت تركيا قد تجاوزت إيران في التطور من خلال عناصر القوة الناعمة المتمثلة في المسلسلات والمدارس التركية والسياحة. لأن تركيا عندما انفتحت على العالم كانت إيران تثير غضب الجميع عبر التصريحات العنجهية لرئيسها محمود أحمدي نجاد. كما أن الإيرانيين الذين كانوا يعانون من الحصار ومن التضييق على الحريات قد أُعجبوا كثيرا بتركيا.
ثم حدث وكأن نيزكاً سقط من السماء فأخذ أردوغان يتمثل أسلوب أحمدي نجاد بعد أن كانت إيران ترى في تركيا مثالا للسياسة البناءة. وبعد انتخاب روحاني عام 2013 أصبحت إيران دولة فاعلة ومسؤولة في العالم. وغدت طهران التي زاد نفوذها في لبنان والعراق وسوريا صاحبة قرار في تركيا واليمن. إن إيران التي كانت مصدر الإرهاب بالأمس أصبح اليوم حتى حلفاءنا الغربيين يصفونها بالقوة البناءة التي تعمل على استقرار المنطقة وتكافح مجموعات مثل القاعدة وداعش. وقد بدأت تتخلّص من ضغوطات الحظر عبر المباحثات حول المفاعل النووي مع أمريكا.
أما تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي” ناتو” فتحوم حولها اليوم شبهات دعم المجموعات المتطرفة. ومع أنها تتحدى العالم أجمع كما كان يفعل أحمدي نجاد إلا أن حلفاءها أصبحوا يتنصتون عليها لفقدان الثقة بينهمم دون أن يكون بمقدورها (تركيا) الاعتراض على عمليات التنصت.
وهذه التناقضات لاتنحصر في السياسة الخارجية فقط. فبينما يتم التستر على المتورطين في أعمال الفساد في تركيا” الجديدة” نجد أن القضاء في إيران “الجديدة” يحاسب الجميع.
حكم القضاء الإيراني بالسجن لمدة 5 سنوات على رحيمي النائب الأول لأحمدي نجاد عندما كان في منصبه لتورطه في أعمال الفساد. وكانت العلاقة بين المتهم الرئيسي بأعمال الفساد في تركيا رجل الأعمال التركي ذي الأصل الإيراني” رضا ضراب” وبين رجل الأعمال الإيراني” بابك زنجاني” إحدى التهم الموجهة لرحيمي من أصل 29 تهمة.
ولأنه لايوجد في إيران “منصب رئيس وزراء” فإن النائب الأول للرئيس في إيران يعادل رئيس الوزراء عندنا. وثمة كثير من الصور لأردوغان ورحيمي بين الصور الخاصة بالعلاقات الثنائية بين تركيا وإيران. وقد نوه الإعلام الإيراني بأن زنجاني لعب دورا في عمليات بيع البترول خارج إيران. وفي ديسمبر/كانون الأول 2013 حوكم زنجاني بتهمة اختلاس 2.7 مليار دولار.
وقد رفع رضا ضراب دعوى قضائية ضد رئيس حزب الحركة القومية، ثاني أكبر أحزاب المعارضة في تركيا، دولت بهشلي لأنه وصفه بـ”المختلس” وعندما طلب حزب الحركة القومية المستندات من إيران تنازل ضراب عن الدعوى، وهذا يشير إلى أن القضاء يعمل بشكل صحيح في إيران. وقد وصف أردوغان رضا ضراب بأنه “رجل محب للخير”. ويقال إن ضراب تراجع عن تلك الدعوى قبل يوم واحد من بدء المرافعة خشية ظهور وإثبات العلاقة بينه وزنجاني.
ولم يتقاطع طريق الدولتين في التنافس على قيادة الشرق الأوسط فقط، بل تقاطع طريقهما في ملف فساد 17 ديسمبر/ كانون الأول. وإن التصريحات التي أدلى بها المدعي العام المكلف بالنظر في قضية الفساد “جلال كارا” للكاتب الصحفي المعروف “جان دوندار” تسلّط الضوء على ما نقول وتثبت حقيقته بصورة جلية. إذ جمع المدعي العام في ملفه كلاً من أحمدي نجاد والحظر المفروض على إيران ورحيمي وضراب وزنجاني إلى جانب كبار المسؤولين الأتراك.
والعامل أو السبب الذي جمع كل هذه الشخصيات على صعيد واحد هو حاجة إيران لنقل أموالها المحظورة وطمع الجانب التركي في الاستفادة من مليارات الدولار الحاصلة جراء عملية النقل هذه. فهم يجرّبون أولاً نقل الأموال عن طريق تصدير الذهب لكنهم سرعان مايعودون إلى التصدير العام خوفا من أن يكشف العالم الغطاء عن هذه العملية.
ومن المعلوم أن العقوبات المفروضة على الأموال الإيرانية لاتشمل المواد الغذائية والأدوات الطبية والأدوية. لكنها لاتجني أرباحاً كبرى. وهم يعدون أوراقاً مزورة تشير إلى تحميل 150 طنا من المواد الغذائية على متن سفن لاتحمل أكثر من 5 أطنان.
وقد قال سليمان أصلان المتهم في إطار قضية الفساد لرضا ضراب في إحدى المكالمات الدائرة بينهما: “إنكم تتظاهرون بأنكم حملتم 150 طنا في سفن سعتها 5 أطنان فقط. لاتفعلوا ذلك جهاراً إلى هذا الحدّ”. فهم يعلمون أن أعمالهم ليست قانونية إلا أنهم يتغاضون عنها. ولو أن هذه العملية جرت عن طريق بنك لاستفاد منها المصدِّر والبلد والبنك جميعاً لكن حين تجري بالإجراءات غير القانونية يتعرض بلدنا للخسارة من حيث الضرائب. فإيران المحاصرة تضحّي بنحو 10% من أموالها حتى تتمكن من نقلها. غير أن الأموال الإيرانية التي يفترض إيداعها في البنك عند دخولها تركيا تذهب إلى جيوب بعض الأشخاص كرشاوي تحت مسمى “عمولات”. وذلك فضلاً عن تحميل هؤلاء الموظفين البلد ثمناً باهظاً جراء اختراقهم للقانون الدولي بطريقة غير لائقة.
إن إيران الجديدة التي يعلو شأنها في العالم تلاحق من يكسبون أرباحاً غير مشروعة حتى لو كان ذلك في سبيل خرق الحصار المفروض عليها، وتبحث عن ملياراتها الضائعة. أما تركيا التي بدأ يخبو نجمها فلاتكتفي فقط بالتستر على عمليات الفساد بل تزجّ بالمحققين فيها إلى السجون.
سطوع نجوم البلدان أو انطفائها ليس من قبيل المصادفة.