بقلم: أكرم دومانلي
عقد رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو اجتماعًا أثار ضجة كبيرة في البلاد وكان موضوعه في غاية الأهمية ألا وهو حزمة الشفافية. في الواقع كانت حملة تستحق أن نصفّق لها لأنها تجري في وقت وصل فيه الفساد والرشوة والسرقة إلى الذروة.
يظهر داود أوغلو خلال الاجتماع موقفاً صارماً ويقول: “هذا الأمر قد قُضي اعتبارًا من هذه اللحظة”. وأنا واثق من أن كل متابِع لـ”التلوث” الذي أصاب السياسة التركية يتنفَّس الصُّعَداء ويدعم هذه الخطوة الميمونة بكل وجدانه. ذلك لأن هذه الحزمة المقترحة من قبل داود أوغلو تفرض على السياسيين “إقرار الذمة المالية”، وتطالب بإجراء تعديلات عمرانية جديدة لمنع تحقيق مكاسب غير مشروعة واستغلال للسلطة والمتاجرة بمكتسبات الشعب وما إلى ذلك من الأمور المخالفة للقانون.
لكن للأسف فإن انهياراً جليدىاً ضخماً بكتلة كبيرة أصاب حزمةَ الشفافية قبل حتى أن يُفتَح غلافها، وذهبت كل الخطابات أدراج الرياح. والذي يزيد الطين بلة هو أن كل ذلك يحدث بفضل إنسانٍ يحمل صفة “رئيس الجمهورية”. إذ عاتب أردوغان نواب حزب العدالة والتنمية الذين قدموا إلى القصر الرئاسي وقال لهم: “لم يكن هذا وقتًا مناسبًا لتمرير حزمة كهذه”. فلم يستطع أن يتجرّأ أحد من عشرات النواب الذين كان أمامه ليقول له: “إن لم يكن الآن فمتى إذن يا مولاي؟ فالأراجيف والأوساخ انتشرت في كل أنحاء البلد”.
لم يستطع أحد منهم أن ينبس ببنت شفة أمام الرئيس الذي شرح حكمته (!) في هذا الأمر، إذ قال: “لو أنزلتم إجراء إقرار الذمة المالية إلى مستوى حكّام الولايات والمقاطعات لما وجدتم أحدًا يقوم بهذه المهام”.
ليخرج علينا أحدهم وليقل أن هذا “كَذِب”!
علينا أن نتوقف في هذا المقام ونفكر جيدًا. أقسم بالله أن الدماء تجمدت في عروقي وأصاب روحي الضجر وانقبض قلبي عندما قرأت هذه الجملة. وددت لو أن الدائرة الضيقة الملكية (!)، التي تدقّق حتى في التغريدات المنشورة على تويتر بحذافيرها، وترفع الدعاوى ضد أصحابها، وتعد أجوبة على تلك الادعاءات الواردة فيها، خرجت علينا فتكذّب هذا الادعاء الذي سردته أعلاه. لتقُل إن هذا “كَذِب”، ولتخبرنا بأن كارثة “التلوث” هذه لن تنزل حتى مستوى رؤساء الولايات والمقاطعات، ولتقل لنا إن هذه الجمل ما هي إلا محض كذب وافتراء. صدقوني لو كانت قالتها لكنت قد سُررتُ، لكن شيئًا من هذا القبيل لم يحدث؛ إذ لم يخرج علينا أحد ليكذّب أو يوضح أو يصحّح!
فإذا كان الأمر كذلك، ألا يضطر الواحد منا إلى أن يطرح السؤال التالي: “ما هي العلاقة المشبوهة التي تورطتم فيها بشأن الأموال والنقود حتى تفكرون أنكم لن تجدوا حتى شخصًا شريفًا لتعيينه في شُعَبِكم بالمقاطعات عند صدور قانون الشفافية؟!” معنى ذلك أن شبكة من العلاقات المتداخلة التي سيطرت على جميع طبقات السياسة كالأخطبوط لوّثت الأجواء لدرجة يستحيل في ظلها أن نحلم بتركيا نظيفة وشفافة!
فهمنا من العناوين الرئيسة التي نشرتها صحيفة” حرّيت” أواسط الأسبوع الماضي أن داودأوغلو اضطر لطأطأة رأسه أمام أوامر رئيس الجمهورية، وللأسف تراجع عن الخطوة الصحيحة التي كان على وشك أن يخطوها. ولم يعد أمامنا سوى رمز لرجل يقف على قدم واحدة وينتظر الأوامر.
لانعرف ما إذا كانت هذه الحزمة قد تأجلت حتى نهاية الانتخابات أو جرى تعليقها أو أُسقطت من الأجندة بالكلية. والسبب في ذلك أن حزبًا كبيرًا يحكم تركيا لا يستطيع الخروج خارج نطاق “الظلّ” الساقط عليه.
من شراكة المصلحة إلى شراكة الجريمة
يُذِلُ رئيس الوزراء التركي أحمد داودأوغلو نفسه بنفسه بعد كل توبيخ يتعرّض له ويستهلك بذلك – للأسف – صورته كرجل فكر. فبدلًا عن أن يظهر موقفًا سياسيًا قويًا من أجل كتابة اسمه بأحرف من ذهب في تاريخ السياسة التركية يبادر لمحاكاة غير ضرورية من أجل “الخنوع” لشخص لا يستطيع التخلَّص من ضغوطه التي يمارسها عليه.
لقد فعل داود أوغلو الأمر نفسه الأسبوع الماضي؛ إذ بادر إلى رمي الأستاذ فتح الله كولن ببعض العبارات النابية، وسعى لقمع مشاعره المسحوقة من خلال ادعاء غير منطقي وقانوني، وحاول حماية منصبه عن طريق إرضاء الشخص الذي يضغط عليه. فهل هذا كان هذا مناسباً لشخصية داود أوغلو؟ بكل تأكيد لا! لم يَلِق هذا السلوك بشخصية كداودأوغلو أبداً مثل الحملات المشابهة التي شنّها بعض السياسيين الآخرين خلال هذا الأسبوع.
فهل يستطيع زعيم حزب سياسي عاجز عن تمرير حزمة الشفافية أن يجهّز قائمة المرشحين في الانتخابات البرلمانية؟ هل بإمكانه إيقاف الإجراءات المخالفة للقانون أو حتى فتح فمه للحديث ضدها؟ هل بمقدوره أن يوقف دفْع إنسانٍ اقتصادَ البلاد إلى طريق مسدود جراء حديثه دوماً عن البنك المركزي مع أن ذلك لايقع في نطاق مهامه أبداً؟ وهل يمكن أن يقول لصاحب الجلالة (!) الذي يريد إغراق بنكٍ رغم دفع مسؤولي وكالة الإشراف على العمل المصرفي وصندوق تأمين ودائع المدخرات إلى ارتكاب جرائم بصورة علنية.. هل يمكن أن يقول له: “كفى أيها الرجل! لقد بدأتَ تسيئ وتشوّه حتى سمعتنا وصورتنا في الخارج”.
الأوضاع في تركيا في غاية السوء، فإدارة حزب العدالة والتنمية تدفع ثمن “التواجد في السلطة لاثني عشر عامًا” وثمن قانونِ “السلطة تُفسد” غاليا. وتحولت شبكة العلاقات التي ضربت بجذورها من خلال الحيل والألاعيب في قطاع الإنشاءات وسَرَت حتى تشكيلات الحزب في المقاطعات إلى أزمة معقّدة لايمكن محاسبة المتسببين بها. ومَن يرجحون الصمت إزاء عشرات وقائع الظلم، وكذلك أولئك الذين يرغبون في “ملء دِلاهم”، يتجمعون حلقاتٍ حول نظام المنافع والمصالح. وعندما تحولت شراكة المصلحة إلى شراكة في الجريمة، ذهبت حزمة الشفافية أدراج الرياح.
تركيا بحاجة إلى التطهير بعدما انقلبت “الأوساخ” فيها “قطرانَ”. فصبّ جام الغضب على الناس وفئات المجتمع، بدلًا عن السعي للتخلص من هذا القطران المقرف، ليس إلا مراوغة المجتمع والسماح للأنفس بالتفرعن (نسبة إلى فرعون). فإذا كانت قامتك قصيرة ارتدِ حذاء ذا كعب عالٍ لتنتهي المسألة.
يجب أن يعرف مَن يرغبون في إظهار أنفسهم كبار وعظماءَ بالصعود على أعناق الناس أن “مستنقع المصالح” الذي غرق فيه البعضُ لم يبلّل حتى كعب حذاء أولئك الذين يصعدون على أعناقهم ليضهروا على أنهم كبار وعظماء. فالغطرسة والاستكبار من غير حق تجلبان على أصحاب الأفق الضيق الخزي والعار في الدنيا والآخرة.
دعوة إلى الأخلاق السياسية الحميدة
يتوجّب على مَن يشغلون أبرز المناصب السيادية بدولة ما أن يكونوا مثالًا للأخلاق الحميدة واللياقة والأدب. لكن للأسف فقد رأينا مؤخرًا أن هذه القاعدة قد دُمّرت بالكامل؛ إذ نشهد انتشار عبارات الكراهية والعداء بشكل لايعقَل مِن شخصيات تتولى مناصب تستلزم تحمل المسؤولية تجاه الجميع. كما أن هذه المقاربة العبثية والبعيدة عن اللياقة والأدب تحدث استقطابات في فئات المجتمع، وتقصي الأفراد والجماهير عن طريق التحريض، وتهزّ الثقة التي يشعر بها الشعب إزاء فكرة العدل.
لا يمكن قبول العبارات المشينة التي استخدمها بعض الأشخاص الذين يحملون صفة رجال الدولة قاصدين – كالعادة – الأستاذ فتح الله كولن، فهذا أمر مخالف للقانون والأخلاق. ولن يستطيع أحد أن يحمل سوءة هذه الإساءة على مر التاريخ.
يعتبر الأستاذ فتح الله كولن أحد أبرز العلماء المسلمين وروّاد الرأي الذين أنجبتهم تركيا. وإن لم تؤيدوا أفكاره وتوجهاته فلا يمكنكم كَيْل الاتهامات الفارغة أو الإساءة إلى شخصه من خلال افتراءات دنيئة. ولايمكن أن يتوافق مع جديّة الدولة الدخولُ في منافسة محمومة من أجل التستر على عيوبكم أو كسب إعجاب البعض. فهذا الأمر يعتبر تخطياً لحدود الأدب وانتهاكاً للقانون، كما أنه بهتان كبير لن يستطيع أحد تحمُّل تبعاته يوم القيامة.
لايمكن لمن يشغل منصب رئيسِ الوزراء أو رئيسِ الجمهورية أو النائب البرلماني أو غير ذلك أن يحتقر أي شخص على الإطلاق. فمن المؤسف أن يسعى البعض لمزاولة العمل السياسي من خلال الهجوم المستمر على أحد علماء المسلمين الذين يتمتع باحترام كبير حول العالم ويتبع فكره ملايين البشر. وإن دل ذلك على شيئ فإنه يدل على التشوّه والعفن السياسي. فهذه الإساءات التي يقومون بها بعين جاحدة هي جريمة منصوص عليها في القوانين التركية والمعايير القانونية الدولية على حد سواء. فكما أن إهانة رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو النواب البرلمانيين تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون، فإن إهانة هؤلاء المسؤولين لمواطني دولتهم يعتبر جريمة كذلك.
يجب القضاء على هذه الفظاظة والوقاحة التي تهين ملايين البشر ولاتتفق مع مبادئ الأخلاق والاحترام والأدب واللياقة العالمية. وإذا كانوا ينتظرون من وراء تحريض الناس أن يردّ الطرف المقابل بالمثل فيجب أن نقولها لهم صراحةً إن مخاطبيهم ليسوا عاجزين عن الردّ بالمثل. غير أن تركيا لن تستفيد أبدًا من هذه النزاعات والخلافات الجارية خارج إطار التربية وحدود الأخلاق.
نريد أن نذكّر مرة ثانية بأن هذا النوع من الإساءات، التي يبدو أنها ستزداد مع اقتراب الانتخابات، لاتمت بصلة إلى المبادئ الإنسانية والإسلامية مطلقًا. وندعو المتمسكين بالمناصب الممنوحة مؤقتاً في هذه الحياة الدنيا الفانية ويتكالب عليها ولا يتورّع استناداً إليها عن نشر الكراهية والعداء والإساءة بين الناس.. ندعوهم إلى التحلّي بالأخلاق السياسية واحترام الآخر.