هركول ميلاس
إن متابعة التطورات السياسية التي تشهدها اليونان بواسطة الإعلام التركي تكون بالنسبة لي مفيدة لأنني أتعلم كيف أن كل شخص يرى أشياء مختلفة حسب احتياجاته وإدراكه.
بالضبط كاختبار رورشاخ Rorschach النفسي الذي يتضمن عرض أشكال معقدة تشبه بقعة الحبر على الناس، ويسألونهم ماذا يرون. ويستفيد الذي يجري الاختبار من الأشياء المختلفة جدا التي يراها الناس ليفهم حالتهم النفسية من مشاعر وإدراك وآمال ومخاوف.
لقد كانت اليونان اليوم بمثابة اختبار بالنسبة للبعض. وبطبيعة الحال، فإن هذا الاختبار لا يسهم في زيادة معرفتنا عن اليونان، ونحن نستند إلى ما يراه الملاحظون لنفهم جيدًا بعض الناس الذين يعيشون في تركيا.
كان هذا الأمر كذلك في الماضي. في الوقت الذي كان فيه رئيس الوزراء اليوناني الأسبق أندريس باباندريو يخون زوجته ويتجول مع عشيقته الشابة وهو عجوز قد دنا أجله، الأمر الذي جعل الكثير من اليونانيين يشعرون بالخزي بسبب هذا المشهد، كان بعض “مفتولي العضلات” في تركيا يعلقون على هذا المشهد بقولهم “الرجل الحقيقي يستطيع التجول مع عشيقته دون خجل ضاربًا بقواعد الدبلوماسية عرض الحائط، نِعم ما فعل!”. ولهذا ذكّرتكم باختبار رورشاخ لأن ما نراه فيما يحدث من حولنا يعكس عالمنا الداخلي.
يعتقد الجناح اليميني في تركيا أن حزب سيريزا اليساري الذي فاز في الانتخابات سيتجه إلى طرق خطيرة ولا مخرج منها، وأنه سيفشل في نهاية المطاف. أما الليبراليون وأنصار الاتحاد الأوروبي فيرون أن اليونان تشهد حاليًا تشكيل حكومة من خلال ائتلاف بين حزب يساري متطرف – وأخر يميني متطرف ويحمل هذا الإئتلاف مخاطر كبيرة.
نرى في الحكومة الجديدة المكونة من 41 شخصا أسماء انضمت إلى سيريزا من أطياف مختلفة، بدأ تسعة منهم العمل السياسي في الحزب الشيوعي اليوناني. وكان معظمهم يتولون مناصب قيادية في أحزابهم. وخمسة انتقلوا إلى سيريزا قادمين من حزب باسوك المحسوب على تيار يسار الوسط. والمثير في الأمر أن هؤلاء الخمسة هم من حزب اليونانيين المستقلين المشارك في الائتلاف. وانشقوا عن يمين الوسط وأسسوا حزبًا أكثر يمينية. ويراهم البعض عنصريين. غير أن هذا الائتلاف المثير للجدل لم يناقش في تركيا كثيرًا. وكيف يمكن أن تكون وجهة النظر والبرنامج والأيديولوجية والمصلحة والدعم الاجتماعي الذي جمع اليسار المتطرف باليمين المتطرف في خندق واحد؟
يرى اليساريون في تركيا أن أحلامهم تتحقق؛ إذ حقق اليسار نصرًا كبيرًا، وخسر اليمينيون الانتخابات بسبب أسلوب إدارتهم السيئ، ليسهم الشعب في وصول اليسار إلى السلطة. كما أن هناك من يرى هذا التطور على أنه نهاية الرأسمالية والإمبرالية والاقتصاد الليبرالي الجديد واستغلال الشعوب، وبداية محتملة لمرحلة ستغير أوروبا وربما العالم بأسره.
في الوقت الذي يقول فيه مسؤولو حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة التركية، “ربما يحين الدور علينا نحن أيضًا”، فإن اليساريين “الأكثر تطرفًا” يبدو أنهم يدافعون عن الفكرة التي تقول إن هذه العملية ستتحقق في تركيا بيد “الماركسيين”. ويبدو أن رمز “الأمل” في اليونان قد انتقل كذلك إلى الجارة تركيا.
الماضي القريب المنسي
يكمن وراء هذه الآراء المتناقضة التفسيرات المختلفة للأزمة الاقتصادية التي عاشتها اليونان. قرأت قبل عام مضى بذهول كبير بيانًا أصدره الأكاديميون في اليونان حول الأزمة الاقتصادية. فلم يسلم شيئ من انتقاد هذا البيان المكون من صفحة ونصف ويحمل توقيع ما يقرب من ألف أكاديمي: الرأسمالية، الإمبرالية، السياسات الليبرالية الجديدة، الاتحاد الأوروبي، صندوق النقد الدولي. لكن البيان لم يتضمن أية عبارة بشأن مسؤوليات الجانب اليوناني. بيد أن الجميع على علم بأن الأحزاب التي وصلت إلى السلطة في اليونان عيّنت عشرات الآلاف من الأشخاص في وظائف بالدولة في مقابل الرشاوي لتشكِّل جيشًا كبيرًا جدًا حسب أبعاد الدولة، وذلك من خلال جشعهم بالحصول على أكبر قدر من أصوات الناخبين. كما يعرف الجميع أن الحكومة حصلت على قروض خارجية طويلة الأجل بمليارات اليوروهات دون أن تفكر في كيفية سدادها في المستقبل فقط من أجل تلبية مطالب القرويين المشاركين في المظاهرات والاحتجاجات المناوئة لها. كما يعرف الجميع أن اليونان لم تعد تستقبل رؤوس أموال أجنبية بسبب تصفير المنافسة التي تعتبر الجانب الإيجابي الوحيد للرأسمالية، وذلك من خلال الضغوط النقابية المتأصلة، وبدأت رؤوس الأموال المحلية الفرار إلى خارج البلاد.
وفي الوقت الذي تشهد فيه البلاد هذه الأحداث اتضح أن جميع أحزاب المعارضة قدَّمت الدعم لهذه العملية بقولها “أكثر.. أكثر”. وقد ارتفع مستوى المعيشة في اليونان في العقود الأخيرة بسبب الاقتراض، لكن هذه “الوفرة” ما كانت لتستمر.
لكن على الرغم من ذلك انجذب الناخب اليوناني إلى من قدم الوعود الوردية، ولم تجذبه عبارات من تفوهوا بهذه الحقائق المعروفة. وذهبت الأصوات إلى اليسار، وكذلك إلى اليمين المتطرف، أي إلى حزبي اليونانيين المستقلين والفجر الذهبي. وحل حزب الفجر الذهبي في المركز الثالث. ولقراءة المشهد السياسي في اليونان بطريقة صحيحة، يجب النظر إلى ما هو أبعد من الانحلال اليساري / اليميني؛ إذ بُني النقاش السياسي في البلاد على أساس دعم حزمة التقشف أو رفضها. ولم يرغب أي حزب سياسي أن يطلع الشعب على سبب الأزمة. وأعجب الجميع دائمًا (وكذلك الهوية الوطنية المجروحة بسبب الأزمة) بعبارة “الآخرون هم الذين يتحملون المسؤولية” بدلًا عن “نحن من يتحمل المسؤولية”. وتحول الاتحاد الأوروبي و”النظام” وألمانيا وغيرهم إلى “كبش فداء”. ولم يفهم أحد أن حزمة التقشف إنما كانت نتيجة للأزمة الاقتصادية، بل ظنوا أنها سبب المشاكل، وتحولت عبارة “لنقضي على حزمة التقشف” إلى شعار؛ إذ أصبحت هي التي توحِّد الأطراف السياسية المتطرفة في البلاد.
في الواقع لايرغب الناخب في نظام سياسي واقتصادي مختلف، بل يريد العودة إلى المستوى المعيشي القديم الذي وصل إليه عن طريق الاقتراض. ولهذا السبب فالناخبون قدموا أصواتهم ودعمهم إلى حزب سيريزا اليساري وحزب اليونانيين المستقلين القومي أو حزب الفجر الجديد لرفعهم شعارات معادية لحزمة التقشف.
يبرز “الغرب المقصيّ” في خطاب اليسار واليمين في اليونان، ذلك أنهم يعتبرون حزمة التقشف “خدعة غربية”. فحزمة التقشف ومعاداة الغرب وجهان لعملة واحدة. ولقد وجدوا زبائن كثر يقبلون الفكرة التي تقول إنه إذا جرى التخلص من حزمة التقشف فإن كل شيئ سيكون على ما يرام. كما سيطرت وجهة نظر تشير إلى أن “المشاكل ستحل إذا ما ابتعدنا عن الإصلاحات التي يطرحها الاتحاد الأوروبي”، بين جمهور عريض، وكذلك بين المثقفين الذين يعتبرون بمثابة موظفين بالدولة.
على أية حال، سنشاهد تطورات مثيرة في الأيام المقبلة. فالرسائل القادمة من بروكسل واضحة جدًا. وقد أوضح رئيس البرلمان الأوروبي شولتز ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر ورئيس مجموعة اليورو يورين ديسلبلوم وأكبر مسؤولي ألمانيا وسائر رؤساء وزراء دول الاتحاد الأوروبي أن الاقتراحات التي طرحها حزب سيريزا “غير واقعية”. كما أنهم يقولون إنه من المستحيل التصرف مع اليونان بشكل يخالف مبادئ الاتحاد الأوروبي، ويطالبون بإتمام التحولات البنيوية المقررة من أجل مواصلة التضامن مع أثينا. بيد أنه يبدو أن الحكومة اليونانية الجديدة تبحر في الاتجاه المعاكس.
يبدو أن زيادة كادر الموظفين بالدولة والقضاء على الإصلاحات لن يكون أول عمل ستقوم به حكومة في بلد على وشك الإفلاس، ووصل معدل البطالة فيها إلى مستويات قياسية، ولم يعد هناك من يضع استثمارات بها، وتعاني بسبب الديون.
لن تغير الحكومة اليونانية الجديدة وجهة أثينا، وإذا حادت عن جادّة الاتحاد الأوروبي، ولو بشكل مؤقت، فربما تشهد أزمة أكبر من الأزمة الحالية. وأخشى أن يكون هناك وقتها أيضا من يقول مثلما قالوا من قبل “الآخرون هم من يتحمل المسؤولية” و”لقد نصبوا لنا الفخاخ”.