علي يورطاجول
ليس من قبيل الصدفة أن نطلق وصف “الزلزال” على نتائج الانتخابات العامة التي أجريت في اليونان يوم الأحد الماضي؛ إذ كان متوقعًا أن يفوز حزب سيريزا اليساري بزعامة أليكسيس تسيبراس بالانتخابات، لكن المفاجأة تكمن في حصوله على 36.3% من الأصوات، أي أكثر من إجمالي ما حصده التياران السياسيان الرئيسان في البلاد، وهما الحزب الديمقراطي الجديد (27.8%) وحزب باسوك (4.7%)، ووصوله إلى السلطة.
لقد أسهمت هذه الانتخابات في إعادة تشكيل التوازنات السياسية في اليونان بشكل من الأشكال. ومصدر فوز حزب سيريزا بالانتخابات، إلى جانب دعمه للقضايا الاجتماعية، ينبع أساسًا من انهيار ثقة الشعب بالتيارات السياسية الرئيسة بالبلاد، والتي يحمّلها الشعب المسؤولية عن الأزمة الراهنة. ولقد أصبح فوز سيريزا مصدر أمل لليونانيين، ومصدر قلق في بروكسل. كما تتداخل فرص نجاح الحزب مع هذه العلاقة ومنطقة اليورو.
ولأن الحزب استلم بنية سياسة مفلسة وهيكلًا اقتصاديًا مدمرًا بسبب الفساد والتبذير المستمر منذ سنوات، فإن أمامه فرصة كبيرة للنجاح. ولقد وصلت معدلات البطالة إلى 25.5%، فيما ترتفع نسبتها بين الشباب إلى 48.4%. كما تشير إحصاءات النقابات العمالية إلى أن السنوات الخمس الأخيرة شهدت انخفاضًا بنسبة 30% في الرواتب. والأمر نفسه ينطبق على رواتب المتقاعدين. وأصبح ملايين المواطنين عاجزين عن سداد ديونهم وإيجارات سكنهم، ما دفعهم لارتكاب الجرائم الاجتماعية.
لقد وصل عدد الذين فقدوا وظائفهم في القطاع العام خلال الأعوام الخمسة الأخيرة إلى 280 ألف شخص. كما أفلست اليونان بسبب ديونها البالغة 320 مليار يورو فضلا عن قرض الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي البالغة 240 مليار يورو. ولو جمعنا كل هذه المعطيات، سندرك أن الزلزال السياسي الذي شهدته أثينا هو نتيجة طبيعية للانهيار الاقتصادي الذي تعيشه. ولا شك في أنه من المستحيل أن يعمّق حزب سيريزا جراح هذا الكيان المنهار أصلًا.
شهدت الميزانية الجديدة في اليونان تأسيس كيان متوازن دون ديون للمرة الأولى، كما يتوقع الخبراء أن ينمو الاقتصاد هذا العام بنسبة تتراوح ما بين 1.5 و 2.9% للمرة الأولى منذ سنوات. ويمكن أن نعتبر أن هذا النمو المتوقع الذي يحدث بعد تقلص حجم الاقتصاد المستمر منذ أعوام، ربما يدعم حزب سيريزا في مفاوضاته مع الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. وبالرغم من ذلك، فإنه من الصعب على الحزب أن “يناور” من أجل تحقيق وعوده الانتخابية التي قطعها على نفسه أمام الشعب، والتي تتلخص في القضاء على “الاقتطاعات الاجتماعية”، وهي خطوة ينتظرها المواطن من الحكومة الجديدة.
يمكن أن تخصص حكومة سيريزا بعض المصادر المالية، وإن كانت محدودة، في أولويات الميزانية من أجل إعادة هيكلة الاقتصاد والنفقات الاجتماعية. ولن يبقى أمامها خيار آخر سوى الجلوس مجددًا على طاولة المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، ذلك أنها لن تستطيع توفير مصدر مالي كبير بقيمة 12 مليار يورو، الذي تريده، من خلال فرض ضرائب على الأغنياء. ويعلم كل من أثينا وبروكسل أن عقْد مفاوضات بين الجانبين يجب أن يتم بشكل عاجل بعد تأجيل تقديم المساعدات المخصصة لهذا العام بسبب إجراء الانتخابات.
لاتتضمن الأجندة السياسية اليونانية في الوقت الراهن مصطلح “Grexit”، الذي يعني خروج اليونان من منطقة اليورو وعودتها إلى استخدام عملتها القديمة الدراخما. ولا تخطط إدارة حزب سيريزا لتنفيذ مشروع كهذا في الوقت الراهن، وإن كان هناك من يدافع عن هذه السياسة داخل صفوف الحزب. وإن كانت هذه السياسية تعتبر أزمة قابلة للإدارة بشكل سهل بالنسبة لمجموعة اليورو قبل خمس سنوات، فليس هناك كثيرون يدافعون عنها حتى في برلين حاليًا. ولهذا، فمن المتوقع أن تتخذ بروكسل موقفًا بنّاءً إزاء حكومة سيريزا في المفاوضات، ومن ثم تواصل سياسة الدعم لأثينا من أجل خروج اليونان من الأزمة الحالية.
يبدو أن الخلاف سيظهر بشأن تنفيذ سيريزا لوعوده الانتخابية، أي قضية القضاء على “الاقتطاعات الاجتماعية”. ونعتقد أن بروكسل ستتصرف بشكل مرن إزاء الحكومة اليونانية الجديدة إذا لم تتخطَّ حدودًا معينة في هذه الوتيرة ولم تعلّق الإصلاحات الجارية. ولو أن موقف الاتحاد الأوروبي صارم بشأن تقديم قروض جديدة إلى أثينا، فإنه من الممكن الوفاء بالوعود المقطوعة إلى يومنا هذا وإعادة هيكلة الديون، وحتى مسح جزء منها، وإن لم يكن فورًا فخلال السنوات المقبلة؛ إذ لم يعد أحد في أوروبا يؤمن بأن اليونان قادرة على سداد ديونها البالغة 240 مليار يورو.
لا يمكن أن تشكَّل بروكسل حجر عثرة في طريق حكومة سيريزا، لكن المفاوضات بين الجانبين ستجري في بيئة صعبة وسيكون لها أصداء كثيرة. ولاشك في أن هذه المفاوضات “الصارمة” ستكون فرصة بالنسبة لحزب سيريزا الذي سيضطر إلى وضع حدود لتطلعات الشعب عن طريق قوله “كافحنا، وأخذنا منهم ما أمكننا، لكن هذا هو القدر الذي استطعنا الحصول عليه”.
إن الخطر الذي ينتظر سيريزا قادم من الداخل، ومصدره تشكيل المجموعات اليسارية التي كانت مهمشة حتى وقت قريب داخل الحزب ائتلافًا فيما بينها. وسنرى إلى متى ستستمر وحدة هذه المجموعات التي لاتعرف ثقافة السلطة ومسؤوليتها. أي أننا سنشهد زلزالًا جديدًا محتملًا وتوابع له في أثينا، وليس في بروكسل. ولأن الاقتصاد اليوناني ليس اقتصادًا يمكن أن يغيّر التوازنات داخل مجموعة اليورو كاقتصاد فرنسا أو إسبانيا على سبيل المثال، فإن زلزال أثينا لن يحدِث خسائر فادحة في بروكسل، حتى وإن كان شديدًا، لا سيما وأنّ نصيب اليونان من الاقتصاد الأوروبي لايتعدى 2%.