علي يورطاجول
ذكّرني التصويت الذي أجري في البرلمان التركي على إحالة ملفات الوزراء الأربعة الذين اقترنت أسماؤهم بفضيحة الفساد والرشوة، بأبيات الشعر التي نظمها الأديب التركي المعروف فضولي. وتبيِّن هذه الأبيات الشعرية أن الفساد يعتبر من الأمراض الشائعة التي تصاب بها المجتمعات على مر العصور، وليست حكرًا على أصحاب المناصب العليا بالدولة. ويكفينا أن نلقي نظرة عن كثب على الجغرافيا السياسية للعالم حتى نرى أن هذا المرض ليس منتشرًا فقط في تركيا وعالمنا اليوم.
إن التاريخ والجغرافيا السياسية اليوم مليئان بالعديد من النماذج التي تبرهن على أن مرض الفساد دمر الكثير من البلدان والمجتمعات وقادها إلى الفوضى والحروب الأهلية. فالفساد هو أول وأعمق علامة على تحلُّل جهاز الدولة.
يكفيكم أن تنظروا إلى أعماق التاريخ أو جغرافيا العالم اليوم لتروا أن الدول والثقافات الراقية هي مجتمعات تعمل بها آليات أخلاقية ورقابية إدارية متينة ضد وقائع غير أخلاقية كالفساد. ولا شك في أن تذكير البعض في التصويت على إحالة الوزراء الأربعة إلى المحكمة الدستورية بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه “لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها” لم يكن من قبيل الصدفة على الإطلاق. وإذا شئتم فانظروا إلى الدول الإسكندنافية (المجر – السويد – الدنمارك) لتدركوا أن السلام المجتمعي والرفاهية ارتقت فيها من خلال قيم نزيهة كالشفافية. ففي تلك البلدان يعتبر الفساد أمرًا صعبًا بفضل التدابير الوقائية التي تتخذها الحكومات في البنية الإدارية للدولة. هذا إلى جانب أن الفساد في هذه الدول يعتبر واقعة يخجل المرء منها بسبب القيم الأخلاقية المجتمعية السائدة.
إن المشاهد التي رأيناها بأم أعيننا في تركيا منذ عام، والتي وصلت إلى ذروتها مع “تبرئة” الوزراء الأربعة المستقيلين في البرلمان، تثبت بما لايدع مجالًا للشك أن الفساد أصبح أمرًا عاديًا وأن القيم الأخلاقية قد تضعضعت.
ولأن الأغلبية الساحقة من المجتمع التركي بما في ذلك أنصار حزب العدالة والتنمية، تؤمن بوجود وقائع فساد، فإن هذا التصويت البرلماني لن يكون “شهادة براءة” يبرّئ من اتُهموا بالفساد، ما سيفضي بالمواطن إلى أن يصل إلى نتيجة مفادها أنه “لا يمكن التحقيق حتى في وقائع الفساد الكبرى في تركيا بعد اليوم”. كما سيتعمّق لدى الجميع الاعتقاد الذي يقول إنه لايمكن مساءلة مصادر القوى التي تقف في صف الدولة والحكومة، كما لايمكن المساس بها مطلقًا. وليس من قبيل الصدفة أن نجد الكُتّاب المؤيدين للحزب الحاكم، ما إن رأوا انتشار هذا المفهوم وترسخه في عقول الناس، أن يبادروا إلى اعتبار فضائح الفساد “غير مهمة” من خلال مقاربات عجيبة من قبيل “الفساد ليس سرقة”.
والأخطر من وصف “غير مهمة” هي تلك الآراء التي تدافع عن فكرة أن أموال الفساد جرى الاستحواذ عليها من أجل تحقيق أهداف “مقدسة”، ما يعتبر بمثابة “فتوى أخلاقية” تفتح الباب أمام وقائع فساد مستقبلية. ولقد كانت الأموال الطائلة الموجودة في “صناديق الأحذية” والخزائن أبرز دليل على هذه الفرضية. فوسائل الإعلام المؤيدة للحكومة لم تشعر بأن هناك داعياً حتى للسؤال عن سبب الاحتفاظ بالأموال في المنازل بدلاً عن إيداعها في الحسابات المصرفية.
كما أصبح الاعتقاد الذي يقول “إذا كان الهدف مقدسًا فكل وسيلة تكون مباحة” هو خط الدفاع في التحقيق في قضية الفساد والرشوة.
إن التصويت الذي جرى في البرلمان يرمز إلى البُعد الإداري للانحطاط الأخلاقي الذي أصاب نظام الدولة في تركيا. فبعد هذا التصويت لن يستطيع أي مسؤول بالشرطة أو موظف بوزارة المالية أو ديوان المحاسبات أو نائب عام أو حتى قاضٍ أن يفتح تحقيق فساد بحق أية شخصية ذات منصب رفيع بالدولة.
ومهما كان عمق تهمة الفساد وإساءة استغلال السلطة، فإن الجميع سيخاف من أن تلصق به تهمة الانتماء إلى ما يسمى “الكيان الموازي”. ولهذا السبب فليس من قبيل الصدفة أن نشهد تحويل عبارة “الكيان الموازي” إلى أداة سياسية. وسيكون من المحدَّد اعتقاد أن التحقيق في قضايا الفساد لن ينتهي بشيئ. أما الموظف الحكومي فإما أنه سيتغاضى عن هذا الفساد أو سيخضع لهذا “النظام” القائم.
لقد أفضى هذا التصويت البرلماني إلى خروج حزب العدالة والتنمية من عباءة كونه حزبًا سياسيًا يعتبر مصدر أمل لترسيخ القيم الأساسية كالديمقراطية ودولة القانون والعدل وتحوَّله الحزب إلى كيان يؤثر فيه الخوف وسلطة الزعيم. وسنشاهد في المرحلة المقبلة أن الحزب عمّق الدمار المؤسسي وأنه علّق العمل بمبدأ دولة القانون وصنع أعداء في الداخل والخارج واستقطب المجتمع وأثار الوقيعة بين أبنائه، وبدأ يسير في طريقه نحو الفناء في مستنقع الفساد كما كان الحال مع حزبي الوطن الأمن والطريق القويم.
لقد كانت حكومة أحمد داود أوغلو هي الفرصة الأخيرة أمام حزب العدالة والتنمية لمواجهة الفساد، لكن للأسف فإن الحزب فوّتها بهذا التصويت البرلماني…