شاهين ألباي
بعد انتهاء الحرب الباردة قلت إن تركيا انطلقت نحو السير في طريق ديمقراطية تحررية وتعددية، ولو بشكل تدريجي، بالرغم من المشاكل الكبيرة التي واجهتها.
لقد وصل التفاؤل الحذر الذي شعرت به إلى ذروته في أول فترتين لحزب العدالة والتنمية في الحكم. وما تشهده تركيا منذ آخر انتخابات برلمانية أجريت عام 2011 من إدارة الحزب الواحد والرجل الأوحد ترك لديّ انطباعاً بأننا نعيش في تركيا “الخيالية” غير الواقعية وأننا نعايش كابوسًا كئيبًا. فأنا اليوم أصبحت أعاني من تشاؤم حذر.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]لاشك في أن أسوأ ما نشهده هو تخطي كون وهم “الكيان الموازي” أداة لإخضاع جميع أركان الدولة لـ”الإرادة الصارمة”، والعثور على حجة لكل شيئ لا يستطيع الحزب الحاكم تفسيره وتبريره قانونياً وسياسياً. [/box][/one_third]لقد زاد تشاؤمي خلال الفترة السابقة، وأسباب ذلك كثيرة، لكن يكفي أن أشير إلى أشدها. إحداها عدم الكشف عن المسؤولين الحقيقيين عن واقعة اغتيال الصحفي ذي الأصل الأرميني هرانت دينك في إسطنبول قبل 8 سنوات. وكان رئيس الوزراء وقت وقوع الجريمة (رجب طيب أردوغان) قد صرح بأن هذه الجريمة لن يُغطّى عليها في “دهاليز أنقرة المظلمة”، وقدّم وعد شرف إلى زوجه الصحفي الأرميني راكيل دينك بالقبض على الجناة. لكنه غيّر كلامه بعد ذلك، وبدأ يقول: “من قتل دينك هم الشباب الذين لم يستسيغوا كتاباته وليس هناك شيئ وراء هذه الجريمة”. ثم أُعلن أن جريمة اغتيال دينك، كسائر الجرائم مجهولة الجاني الأخرى، هي “مؤامرة” خططت لها حركة الخدمة.
وكان أحد نواب رئيس حزب العدالة والتنمية، وهو في الوقت نفسه أستاذ للقانون الدستوري ، وأخجل من ذكر اسمه هنا، قال الأسبوع الماضي: “معارضو حزب العدالة والتنمية هم أعداء تركيا…”. وعلى أية حال فهذه هي الطريقة الأفضل للتعبير عن العقلية المسيطرة على السلطة الحاكمة في تركيا التي ترفض المعارضة، أي ترفض الديمقراطية من جذورها.
لقد تستّروا على أكبر فضيحة فساد ورشوة في تاريخ تركيا. كما لم ينسَ أعضاء كتلة الحزب الحاكم البرلمانية أنهم مدينون بنجاحهم السياسي إلى “الإرادة الصارمة”، كما كان متوقعًا، إذ صوتوا على رفض قرار إحالة ملف الوزراء الأربعة المستقيلين بسبب فضيحة الفساد إلى محكمة الديوان العليا. كما لم يشارك رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو في التصويت بعدما وجد حجة، وهي زيارته إلى بريطانيا، وكان قد دعا الوزراء الأربعة إلى التوجه إلى المحكمة طواعية بعدما كرر هذه الجملة مرارًا: “لو سرق أخي لقطعت يده!”.
وكان داود أوغلو قد أعلن عن حزمة “شفافية في الإدارة العامة” تلزم رؤساء شُعب الحزب الحاكم في الولايات بتقديم إقرارات الذمة المالية، الأمر الذي أزعج رئيس الجمهورية أردوغان الذي قال: “يجب أن نكون حذرين فيما يتعلق بإقرار الذمة المالية إذ لو سار الأمر على هذا المنوال فربما لاتجدون رؤساء للشُعب في المحافظات والبلديات”. ولاشك في أن هذه الكلمات هي اعتراف مؤلم نسمعه من أعلى مسؤول بالدولة يشير إلى أن أغلب السياسيين في تركيا – على أقل تقدير – يدخلون المعترك السياسي لتحقيق هدف أساسي، ألا وهو ملء جيوبهم بالمال.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]ما إن تنتهي الديمقراطية داخل حزب ما حتى تبدأ حقبة الصراع بين أقطابه، وهذا ما شهدناه في كل الأحزاب التي تمتلك بنية استبدادية وشمولية. [/box][/one_third]وكان الرئيس أردوغان نفسه، انسياقاً وراء سعيه للوفاء بأداء دور “الرئاسة” قد انتهك الدستور ومارس ضغوطًا على رئيس البنك المركزي من أجل خفض الفوائد وخاطبه قائلا: “الفوائد لا تنزل فرئيس البنك المركزي لايخفضها، ماذا تنتظر حتى تصدر قرار الخفض؟!”. ثم أتبع ذلك بقوله: “الآن يمكن أن يقولوا إن البنك المركزي مستقل، فأنا أيضا مستقل”.
هناك من لم يفهموا ماذا أراد أردوغان أن يقول. غير أن مغزى كلامه كان واضحًا، وهو كالتالي: “لا يستطيع أحد محاسبتي لكنني أحاسب الجميع ولا يمكن أن تكون أية مؤسسة حكومية مستقلة”. فهذه أوضح عبارة يمكن أن تخرج من فم شخص مؤمن بـ”البوتينية” (نسبة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين).
ولاشك في أن أسوأ ما نشهده هو تخطي كون وهم “الكيان الموازي” أداة لإخضاع جميع أركان الدولة لـ”الإرادة الصارمة”، والعثور على حجة لكل شيئ لا يستطيع الحزب الحاكم تفسيره وتبريره قانونياً وسياسياً. وحسبما أرى، فإن آخر غرض لاستخدام مغالطة “الكيان الموازي” هو تصفية كل من لايبايع “الإرادة الصارمة” من حزب العدالة والتنمية. فلا تستغربوا إذا أعلنوا عما قريب عن انتماء داود أوغلو إلى “الكيان الموازي” بعدما نصبوه رئيسًا للوزراء بفضل موقفه الثابت في مواجهة هذا “الكيان”. (راجعوا مقال ديوان القصر الذي نشرته صحيفة” زمان” يوم 21/1/2015 للكاتب مصطفى أونال).
ما إن تنتهي الديمقراطية داخل حزب ما حتى تبدأ حقبة الصراع بين أقطابه، وهذا ما شهدناه في كل الأحزاب التي تمتلك بنية استبدادية وشمولية.
أملي الوحيد في أننا سنفيق من هذا الكابوس الذي نعيشه يستند إلى اعتقادي المتواصل بأن المجتمع التركي لايعتبر مجتمعًا بدائيًا كما يعتقد أصحاب “الإرادة الصارمة” وأنه حتى حزب العدالة والتنمية لن يتحمل إدارة الرجل الأوحد أطول من ذلك.