بقلم: محمد نور الين
«أنا زمان».. «أنا صمانيولو»
«ازدواجية المعايير» تنطبق على أردوغان
مسيرة باريس أثارت سجالات ونقاشات في العلاقة الإشكالية بين الغرب والإسلام
الضرب في الميت حرام. وهذا ينطبق بالكامل على مشاركة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو في «مسيرة الجمهورية» ضد الإرهاب في باريس، تنديداً بالمجزرة ضد صحيفة «شارلي ايبدو». الإرهابي الأول في العالم يتصدّر المسيرة ضد الإرهاب.
لكن أيضاً فإن الضرب في الحيّ أحياناً حرام. وهذا ينطبق على رئيس وزراء تركيا احمد داود اوغلو، الذي كان أيضاً في الصف الأول من مسيرة باريس.
ربما لاحظ رئيس وزراء تركيا أن نصب الحرية في ساحة الجمهورية، والذي يتمثل بتمثال «ماريان» قد حُمّل قلماً في يدها. كما مرّ التابوت الذي تجسّم بشكل قلم من أمام الضيوف الرسميين، أو على الأقل شاهدوه على شاشات التلفزة. لا أدري ما الذي دار بخلد داود اوغلو حين رأى هذه المشاهد، لكن بالتأكيد كان مستعجلاً انتهاء المسيرة لينهي «عذاب الضمير» المؤقت، ولو لدقائق.
عندما عاد داود اوغلو إلى أنقرة كان أول عمل قام به هو منع توزيع النسخة التركية (ولو الناقصة أو المعدلة) من «شارلي ايبدو» مع صحيفة «جمهورييت» العلمانية والمعارضة الأولى لنظام الرئيس رجب طيب اردوغان.
في باريس سار داود اوغلو دفاعاً عن حرية التعبير، وفي أنقرة قتل حرية التعبير. طبعاً هنا ربما ندخل في نقطة إشكالية على اعتبار أن هذه الرسوم مسيئة للرسول الكريم وللدين الإسلامي، وهي كذلك بل أكثر. لكن مَن يريد أن يسير في مسيرة باريس عليه أن يمتثل لمنظومة القيم التي تحركها، وخصوصاً من الجانب التركي. إذ إن الدول العربية، أو الإسلامية، التي شارك بعضها في مسيرة باريس ليسوا من طلاب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وبالتالي ليسوا ملزمين بتطبيق شروط الانضمام، ومن بينها حرية التعبير. لذا فإذا كانت تركيا لا تريد الالتزام بذلك، فما عليها سوى أن تعلن أنها لا تريد الانضمام، وأن تعلن أن شروط الاتحاد الأوروبي لا تنسجم مع القيم الفكرية والثقافية والحضارية التي يعتنقها، أو يؤمن بها المجتمع التركي، أو غالبيته أو نصفه.
«ازدواجية المعايير» التي اتهم اردوغان الغرب بأنه يمارسها تجاه المسلمين صحيحة، لكنها تنطبق عليه وعلى رئيس وزرائه أيضاً. الغرب لا شك في أنه يربي الإرهاب ويرعاه، ويدافع عن الكيان الصهيوني ويترك الشعب الفلسطيني مظلوماً ومشرداً، ثم يقول إنه ضد الإرهاب. يدافع عن حرية التعبير والفكر، لكنه يمنع التشكيك في «الهولوكوست». لكن نظام اردوغان – داود اوغلو هو نفسه الذي يمارس ازدواجية، بل ازدواجيات، لم تعد خفية، بل مكشوفة مثل وضح النهار.
لقد رفعت مسيرة باريس شعار «أنا شارلي». ومشى داود اوغلو في ظله. ورآه في كل مكان. ولكنه كان قادماً للتو من حفلة اعتقال رئيس تحرير صحيفة «زمان» أكرم دومانلي ورئيس مجموعة «صمانيولو» التلفزيونية هدايت قره جه والعشرات من العاملين في الوسيلتين الإعلاميتين. فهل فكر داود اوغلو لحظة أن بإمكانه أن يرفع بنفسه، أو أن يسير بنفسه في مسيرة ترفع شعار BEN ZAMANIM ، أي «أنا زمان» أو «أنا صمانيولو»، أو أي شعار آخر يعكس حرية الصحافة في تركيا؟ هل تذكّر في تلك اللحظة أن تركيا، في تقرير «مراسلون بلا حدود»، تحتل المرتبة 164 في العالم لجهة التأخر في مستوى حرية الصحافة من أصل 190 دولة؟ أي تكاد تكون الأخيرة في الترتيب؟ هل تذكّر أنه قادم من بلد منع فيه الإنترنت و «يوتيوب» و «تويتر» في مراحل معينة؟
هل يتذكر داود اوغلو أن اردوغان أراد منع عرض مسلسل اسمه «القرن العظيم» (حريم السلطان) فقط لأنه يرى أنه لا يعكس الصورة الحقيقية للسلطان سليمان القانوني، علماً أنه ليس مسلسلاً وثائقياً (لكي يحاسبه المؤرخون وليس هو) بل تاريخي ودرامي يختلط الواقع فيه بالخيال؟ وهل تذكّر داود أوغلو وهو يمضي في المسيرة عشرات الصحافيين في بلده، الذين اعتقلوا أو طردوا من وظائفهم أو منعوا من الظهور على شاشات التلفزيون، في بلد يزعم أن هدفه الاستراتيجي الانضمام إلى اتحاد أوروبي؟
ذهب داود اوغلو إلى باريس فقط لأنه لم يكن قادراً على عدم الذهاب، بعدما بان أن أنقرة في موقع لا تُحسد عليه بشأن التحقيقات بشأن مجزرة «شارلي ايبدو». ساعات وأعلنت تركيا أن صديقة منفذ هجوم المتجر اليهودي، حياة بومدين، كانت قد مرّت قبل المجزرة في الأراضي التركية. ويقال إنها ذهبت إلى سوريا، وربما كانت بقيت وحتى الآن في الأراضي التركية.
مسيرة باريس أثارت سجالات ونقاشات، وطرحت علامات استفهام كثيرة. هي ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، في العلاقة الإشكالية بين الغرب والإسلام. بدأت الإشكاليات والمشكلات منذ وصول المسلمين إلى الأندلس، ومن ثم غزوات الحروب الصليبية فغزوات العثمانيين في أوروبا، فعودة الاستعمار الغربي إلى المنطقة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فتأسيس الكيان الإسرائيلي العام 1948 ثم غزوة نيويورك في 11 أيلول العام 2001 إلى غزوة باريس الأخيرة في 7 كانون الثاني الحالي.
علاقة إشكالية بكل معنى الكلمة. الغرب مسؤول عنها والمسلمون أيضاً مسؤولون. المسؤولية مشتركة. لكن أن يخرج وزير الخارجية التركي ويقول إن التهديد الأكبر الذي تواجهه أوروبا هو العنصرية وكراهية الأجانب والتمييز و «الإسلاموفوبيا» فقط من دون الإشارة إلى مسؤولية الفكر التكفيري والأصولي والمتطرف في المجتمعات الإسلامية، ومن ثم يأتي أردوغان ويقول إن المسؤولية على الغرب لأنه يمارس ازدواجية المعايير من دون غيرها من الأسباب المتعلقة بالعالم الإسلامي ومنه تركيا، فهذا ما يدخل في النظرة الأحادية التي لا ترى سوى بعين واحدة، والهدف هو التغطية على المسؤولية التي يفترض، ويجب أن يتحملها أيضاً قادة العالم الإسلامي وحكامه وأنظمته وعلماء دينه وكل النخب الموجودة فيه.
ومسؤولية تركيا هنا مضاعفة، إذ إنها البلد الأكثر احتضاناً للفكر المتطرف عندما سمحت بل استقدمت الآلاف من المتطرفين لعبور أراضيها والانضمام إلى تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» – «داعش» و «جبهة النصرة» وممارسة أبشع الأساليب المسيئة للإسلام وصورته. وفي تركيا هذه تجرأت جماعة دينية هي «العجزمندية» فيها على إقامة صلاة الغائب على «الشهيدين» كواشي اللذين دكا «حصون الكفر» على ما جاء في موقع الجماعة على الإنترنت التي نشرت صورة للصلاة التي أمّها زعيمها مسلم غوندوز. ومع ذلك لم تحرك الحكومة التركية ساكناً لهذا المشهد، الذي يوجه رسالة دعم واحتضان ودعوة لتكرار أعمال قتل الرسامين والمدنيين في الغرب والشرق على السواء.
الدعوة لتعيد تركيا النظر في مواقفها ميؤوس منها. ومع كل فشل تواجهه يزداد تعنت قادتها وخروجهم من العالم الواقعي والعيش في واقع افتراضي ليس آخره إلباس حرس الشرف في القصر الجمهوري الجديد في أنقرة (القصر الأبيض) أزياء ترمز إلى 16 دولة أسسها الأتراك عبر التاريخ (نصفها قبل اعتناق الأتراك الإسلام). لا أحد يعارض عودة أي مجتمع إلى الماضي واستلهام المــوروث الثقـــافي، ومن ذلك تعليم اللغة العثمانية من جديد في المدارس. لكن هذا شــيء واستثمار ذلك للتوظيف في خدمة مشروع سياسي «عثماني» للهيـــمنة على الآخرين شيء آخر. وهذا ما يفعله اردوغان – داود اوغلو في مســرحية بعث عظمة زائفة، أو التعويض عنها، في نظام خاوٍ باتــت علاقـــاته صــفراً مع الجميع لا تعوّض عنها زيارة خادعة إلى بغداد ولا مشاركــة كاريكاتورية في مسيرة باريسية.
من صحيفة السفير