ممتاز أر توركونا
من الواضح أن الكلام الذي قاله رئيس الشؤون الدينية السابق علي بارداك أوغلو للصحفي أحمد خاقان من جريدة” حريت” كان نتيجة تفكير طويل.
فهو يقول إن المظاهر الدينية وقيمة الدين الرمزية قد ازدادت ولكن التدين الحقيقي قد ضعف كثيرا. وصدور هذا الكلام من فمه هو مهم من عدة جوانب:
أولا: لأنه عالم متمكن في مجال الفقه، فهو مؤهل للحديث في هذه المواضيع بالأدلة والاستشهاد من القرآن الكريم.
ثانيا: لأنه تقلد منصب رئاسة الشؤون الدينية لمدة زمنية تتجاوز نصف مدة عهد حكومة العدالة والتنمية (حتى 2009). فقد وجد فرصة كافية للاطلاع على التغييرات التي حدثت في تركيا على صعيد الدين والتدين ولو بصورة سطحية وكان هو المسؤول عن تحديد مسار قسم من تلك التغييرات.
ثالثا وأخيرا: كما هو معلوم أنه حافظ على وضع وهيبة منصبه وقاوم مطالب الحكومة لهيكلة الشؤون الدينية وتسييسها كما يحلو لها. ولذلك اضطر إلى مغادرة ذلك المنصب في نهاية المطاف. ولابد للذين يبحثون عن نقطة استناد منصفة وعادلة في جميع الحوارات الدينية الساخنة أن يولوا اهتماما لكلام بارداك أوغلو.
يرى الرئيس السابق للشؤون الدينية أن هناك ابتعادا عن الهوية الأصلية للدين. والسبب في ذلك خضوعنا لسيطرة الخطاب الذي يساوي بين الإسلام والإيدولوجية (المذهبية المثالية) وبين الإسلام والسياسة وحسب هذا الخطاب إن كنتم مسلمين فمن المعلوم والمعيّن مسبقا بدلا عنكم إلى أي فكر سياسي ستنتسبون وأية إيدولوجية ستتبنونها وأي حزب سياسي ستصوِّتون له. وإذا أردتم أن تجعلوا معتقداتكم تسابق الرؤى الأخرى فسيتحول الخطاب الديني إلى إيدولوجية تتحكم في جميع مجالات الحياة. فالغاية الأساسية ليست هي الإعلاء من شأن الدين. فالكل يدخل في سباق لإيجاد الشرعية لرأيه الشخصي أو البحث عن حجج لإقصاء غيره. وهذا يؤدي إلى مزاولة النزاعات في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية باسم الدين.
وقد عبر بارداك أوغلو عن أساس المشكلة بقوله : “لقد حاول البعض تقديم نموذج أصلي للمسلم بحيث لم يترك للفرد مساحة يتحرك بحرية بل فُرض عليه كل شيئ حتى تم تحديد من الذي يجب عليه أن يحبه ومن الذي سيعارضه”. الذي يتحدث عنه بارداك أغلو هو تسييس الدين أولا ومن ثم تحوله إلى سند للحكومة وأخيرا تحوله إلى فكرة استبدادية تحدد الأمور في جميع مجالات الحياة. وهاكم مظهر ديني تم تسييسه بشكل مفرط في السنوات الثلاثة الأخيرة. انتبهوا فإن ما نتحدث عنه هو تحويل الدين إلى آلة سياسية بسيطة وليس صبغ السياسة بصبغة دينية.
فحين تبدأون بإسناد سياستكم اليومية وسياستكم الحزبية والضرورات الناتجة عن السياسة الواقعية إلى حجة دينية يخرج الدين عن كونه مصدرا للوحدة والسلام لينزل إلى درك الحجة للعنف والعداوة.
أما الذين يحاولون إيجاد غطاء ديني لعمليات الفساد ويسندون المناورات السياسية للحكومة إلى الدين إنما يلحقون الأذى والضرر بضمائر المسلمين وبالاحترام الأزلي الأبدي للدين. والحمد لله على أن الدين ليس حكرا عليهم. فالقوة المدنية للدين دائما ترشد المجتمع بشكل أعمق وأكثر تقدما.
فالدين يوحد ويجمع ويبني السعادة والطمأنينة ليصل الناس إلى بر الأمان من خلال اعتصامهم بحبل الله. أما المجال السياسي الذي تسيطر عليه النزاعات والصخب والحرص على القوة والسلطة والكبر والتذمر والعنف فإنه يفرق الناس ويزرع بينهم العداء. وقد شهدت تركيا في العام الماضي خاصة استغلال الدين من أجل تشريع أعمال الفساد لأغراض سياسية بحيث ازدادت عمليات الفساد بشكل كبير. وقد عبر بارداك أوغلو عن المفارقة التي شهدتها الآونة الأخيرة بقوله: “يكسبون من الدين ويستثمرون للدنيا” فقد حاول خير الدين كارامان وضع التشريع للحكومة من خلال التفريق بين الفساد والسرقة ويتحول الدين في يد أمثال كارامان إلى مجرفة كبيرة تزيل جميع الحواجز أمام السياسة ويفتح لها الطريق لتصل إلى جميع مصالحها الدنيوية.
مع أن الحقيقة أن الذي يستخدم قوة الدولة في أعمال الفساد يكون قد ارتكب جرما أشنع من السرقة لأن ذلك يعني أن السارق يمتلك قوة الدولة أيضًا. والثروات التي اغتصبها هي ملك الدولة ويخص عامة الشعب. والعمولات التي تؤخذ من المناقصات والتبرعات التي يحصلون عليها- أيا كان هدفها- بغير الطريقة التي يسمح بها المالك الحقيقي لها وهو الشعب يعد من أعمال الفساد، أي السرقة التي تُستخدم فيها قوة الدولة. ولا يمكن الاعتماد قطعيا على أحكام من لايستطيع فهم هذه المحاكمة البسيطة.
وفي السنوات الأخيرة تم استغلال الدين بشكل فاضح وبلا أي تردد أو خوف لدى الحكومة.
والنتيجة: كما قال بارداك أوغلو تراجع التدين على الرغم من كل الكلمات البراقة والمظاهر الخادعة.