ممتاز أرتركونه
هل بإمكانكم أن تقولوا إن هناك سياسة مستقرة تنتهجها تركيا في أية قضية من القضايا التي تواجهها؟ لقد فقدت الدولة السيطرة على دفة السفينة العملاقة التي أصبحت عرضة للتأرجح يمنة ويسرة حسب الرياح والأمواج.
لقد فشلت الحكومة التركية الحالية في إدارة البلاد على المستويات كافة بدءًا من الاقتصاد والسياسة الخارجية مرورًا بالأمن الداخلي وانتهاء بالقضية الكردية. تجد شخصًا واحدًا يصدر قرارات من قبيل “إنقاذ ما يمكن إنقاذه” وما إن ينتهي اليوم ويطلع فجر اليوم التالي حتى يستسلم الباقون إلى هذه القرارات. وبعدها تصدر قرارات وعمليات جديدة. ففي مصلحة مَن تصب هذه القرارات؟
الرياح تهب عاتية في الخارج وفي الداخل يسحَب البساط من تحت أقدامنا فيما تضيق دائرة النار حولنا. وفي الوقت الذي نحن فيه بحاجة إلى حملات سريعة وعقلانية فإن السياسة التي ينتهجها الحزب الحاكم لاتستطيع حتى أن تبدي ردود فعل بسيطة بسبب انغلاقها على نفسها. فما هي سياسة تركيا في أية قضية من القضايا؟ هل لديكم إجابة عن هذا السؤال؟
يبدو أننا كنا مخطئين عندما استخدمنا تعبير “إعلام الحزب الحاكم” لأن الأصح هو مصطلح “إعلام أردوغان”. ومن الواضح أن منشورات هذا الإعلام التي تحتقر رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو لا تقرر في قسم التحرير لهذا الإعلام. وقد انتشرت أخبار تفيد بأن “أردوغان هو الذي سيعدّ قوائم النواب البرلمانيين وتعيين كوتة محددة لداود أوغلو” فهذه الأخبار تنشر من أجل التقليل من قدر رئيس الوزراء الذي يعتبر في الوقت نفسه رئيس الحزب الحاكم هذا فضلًا عن تقديم رسالة مفادها أن إدارة جميع الأمور تقع تحت سيطرة “اليد العليا في القصر الأبيض بأنقرة”. هذا يعني أن أردوغان في حاجة إلى الدعم بمثل هذه الرسالة. ولم يشارك داود أوغلو في آخر خمس مؤتمرات بالمحافظات المختلفة. كما كانت تعليمات أردوغان هي المؤثرة لمنع نقل ملف وزراء الفساد إلى محكمة الديوان العليا وليست تعليمات داود أوغلو. كما أن داود أوغلو ينتهج مقاومة “سلبية صامتة” ضد اجتماع مجلس الوزراء برئاسة رئيس الجمهورية. ولذلك يتم دائماً تأجيل هذا الاجتماع. فما رأيكم؟ هل من الممكن أن يعقَد اجتماع وزاري في القصر الرئاسي برئاسة رئيس الجمهورية؟
عليّ أن أكرر ما كتبته سابقًا، وهو أن كلًا من أردوغان وداود أوغلو يفكران بشكل مختلف بشأن المشاكل الأساسية الأربع التي تعاني منها تركيا: الاقتصاد، مفاوضات السلام مع حزب العمال الكردستاني، السياسة الخارجية، الفساد.
ففي الوقت الذي تمثل اختيارات وترجيحات داود أوغلو بعين الاعتبار – بشكل نسبي – عقل الدولة وتحليل مصالح الدولة والشعب متوسطة وبعيدة المدى فإن ترجيحات أردوغان تستند إلى سياسة الخروج من المأزق الذي وقع فيه عقب فضيحة الفساد وإلى تقوية سلطته.
أما الجانب الاقتصادي فلايمكن تنفيذ الإصلاحات البنيوية وفي مقدمتها البرنامج متوسط المدى الذي وضعه نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية علي باباجان لأنها تتعارض مع مصالح زمرة المقاولين المحيطة بأردوغان. وبالنسبة للسياسة الخارجية، فإن الوسائل التي تبحث عنها أنقرة في مياه روسيا “المظلمة والباردة” بعدما ابتعدت عن الاتحاد الأوروبي فهي نتيجة الابتعاد عن القانون والديمقراطية بُغية التستر على فضيحة الفساد.
تخسر تركيا خسائر متتالية على جبهة الديمقراطية والحريات من أجل التستر على فضيحة الفساد. وكانت محاولة المحكمة الدستورية لإلغاء نسبة الحد الأدنى من الأصوات المطلوبة للمشاركة في البرلمان فرصة مهمة على طريق حل القضية الكردية. لكن هذه الفرصة جرى تفويتها لأنها لم تتناسب مع حسابات أردوغان الشخصية تمامًا.
إن “حِمل” الفساد الذي تحمله سياسة الحزب الحاكم في تركيا يعتبر السبب الوحيد الكامن وراء المشاكل التي تعاني منها البلاد وتضاؤل مساحة المناورة في الخارج. ولولا هذا الحِمل لكان الاقتصاد أكثر قوة، والسياسة الخارجية أكثر اعتبارًا، ومفاوضات السلام أكثر اتزانًا وصحية. فما هي الكفارة التي ندفعها؟
كنت قد قلت إنه من الضروري أن يستقيل أردوغان من منصبه كرئيس للوزراء عندما كُشف النقاب عن فضيحة الفساد والرشوة قبل أكثر من عام. وقبل أن يكون هذا المطلب نابعاً من مراعاة القانون فقد كان توقعًا لهذا المشهد الجنوني الذي نعيشه اليوم. ولو كان أردوغان قد استقال وسنحت فرصة أمام حزب العدالة والتنمية للتطهير ألم تكن الأمور أفضل مما هي عليه الآن؟
في الوقت الذي تزداد فيه الديون المعدومة في المصارف الحكومية فإن قوة الدولة تكرس لإغراق أحد البنوك بحجة انتسابه إلى “الكيان الموازي”. وكان رئيس جمعية رجال الأعمال والصناعيين الأتراك (TÜSİAD)) قد قال إن “ادعاء الكيان الموازي غير مقنع” الأمر الذي تسبب في فرض غرامات ضريبية كبيرة على رجال الأعمال التابعين لهذه الجمعية.
لقد حضر داود أوغلو مسيرة شارك بها 3.5 مليون شخص لدعم حرية الصحافة في باريس وذلك بصفته رئيس وزراء دولة تسجن العاملين في الحقل الإعلامي. إن تركيا أصبحت مفضوحة أمام العالم ولا تستطيع رعاية مصالحها وذلك بسبب “إرهاب دولة” أطلقه شخص واحد من أجل التستر على فضائح الفساد.
هذا ليس إطلاق النار على أنفسنا بل أمسك شخص واحد ببندقية آلية وبدأ يملأها بالطلقات كل يوم ليصوب سلاحه ويطلق نيرانه صوب ما يمتد إليه بصره والأنكى من ذلك أنه يطلق نيرانه من أعلى نقطة.
لقد وصلنا إلى مرحلة خطيرة بسبب السياسات التي تستند إلى مبدأ “إنقاذ ما يمكن إنقاذه”. وهو مايعني أن الوقت يداهمنا من أجل أن نشهد محاولة فعالة من أصحاب العقل والسلطة لإنقاذ الوضع.