ممتاز أر توركونه
ينظر صاحب السلطة إلى القانون في أغلب الأوقات على أنه عائق في طريقه يجب أن يتخطاه دون أن يتعلق به بقدر الإمكان كما أنه يلجأ إلى استغلاله كسلاح فاعل عندما يصب في مصلحته ويخدم أهدافه. ولقد نفد هذا القانون الذي تستغله السلطة بكلا الوجهين.
نحن اليوم أمام أقسى وأعنف أنواع السياسة وأكثرها بدائية إذ إن “قانون الغابة” هو السائد في تركيا. ولاشك أن الرئيس رجب طيب أردوغان سينفذ تكتيكاته المعتادة من أجل تلافي الخسارة بعدما تخطى حاجز المحكمة الدستورية ألا وهي تقسيم المجتمع إلى معسكرات واستقطاب طوائفه. فهذه مساع لمحاولة جعل المجتمع يقبل بالوضع السيئ خوفًا مما هو أسوأ. فالوضع السيئ هو حرية اللصوص وسيطرتهم على إدارة الدولة حتى الآن. أما الأسوأ فهو أعداء الوطن والخونة والآخرون وسائر المخاوف الأخرى.
يظنون أن معهم الحق لأنهم أقوياء أما نحن الذين يشتكون من السرقة والفساد فليس لنا أي حق ولانستطيع إثبات صحة ادعاءاتنا لأننا ضعفاء. وعندما نعترض ونتمرد تتحول القوانين هذه المرة إلى سلاح مميت في أيدي أصحاب القوة والسلطة. غير أن لكل شيء حدود. فهذه القوة التي قضت على القانون ستبدأ القضاء على نفسها بنفسها.
إن السّلْم العام في تركيا يواجه تهديدًا خطيرًا للغاية. ومصدر هذا التهديد هو الشخص الأوحد الذي يستغل القوة والحصانة اللتين يتمتع بهما من أجل استقطاب المجتمع وبث العداوة بين أفراده. وبالرغم من التقرير الواضح الذي أعدته وحدة تحريات الجرائم المالية، حاولت الحكومة إغلاق الباب أمام إحالة ملف الفساد المتعلق بالوزراء إلى محكمة الديوان العليا ما أغلق فجوة الشرعية من خلال الخلاف.
تزداد كثافة استخدام كلمات “الكيان الموازي” و”الانقلاب” و”السَّفلة” كلما شعرت الحكومة التركية بأنها وقعت في مأزق. وقد شهد الاجتماع الذي عقده الرئيس أردوغان في القصر الرئاسي الجديد (القصر الأبيض) مع السفراء الأجانب إطلاق الإشارة الأولى لحملة خلق توتر جديد في سبيل ملء فجوة المحكمة العليا.
إننا نعيش في بلد لايزال الكيان الموازي فيه يفعل ما يحلو له ويعتبَر فيها الاعتراض على السرقة والفساد “محاولة انقلاب” ضد الحكومة. ويا له من كيان موازٍ فاشل فهو لا يستطيع حتى أن يغلب اللصوص. ولهذا فعلينا أن نحافظ على صحتنا العقلية حتى لا نكون أداة للكراهية.
إن ضعف صاحب القوة يكمن في قوته أيضا أي ظلمه وانتهاكه للقوانين. وكان أردوغان قد كرر وهو يطلق هذه الحملة أن “التنظيم الموازي” سيدرَج في الكتاب الأحمر خلال سنة واحدة. لكنه نسي شيئًا مهمًا ألا وهو أن المحكمة أصدرت حكمًا بعدم وجود ما يسمى “التنظيم الموازي” أو “الكيان الموازي”. وقد جاء في حكم المحكمة الابتدائية الثالثة في باكير كوي بإسطنبول أنه “لا يوجد تنظيم موازٍ كما ادعى المدّعون في الأرضية القانونية الوطنية والدولية”. وعلينا أن نفهم “الأرضية القانونية” على أنها “مصدر يستند إلى دليل قانوني”. والحكاية هي أن الدعاوى التي رفعها مواطنون أتراك شعروا بالإهانة من العبارات التي استخدمها أردوغان لوصف جماعة الخدمة مثل “الحشاشين” و”السفلة” و”عديمي الشرف” و”التنظيم الإرهابي” وما إلى ذلك من الشتائم والسباب التي يندى لها الجبين جرى توحيدها ومن ثم رُفضت طلبات التعويض للمواطنين. وقد أصدرت المحكمة قرارًا برفض هذه الدعاوى لبعض الحجج التي جاء في مقدمتها أنه “لا يوجد كيان يحمل اسم الكيان الموازي”.
يرد عنوان: “جرائم ضد السّلْم العام” بين المادتين 213 – 222 الواردتين في الجزء الثالث من الكتاب الثاني لقانون العقوبات التركي. وتستند دعاوى الإساءة إلى الجريمة الواردة في المادة 216 وهي “تشجيع المجتمع على الحقد والكراهية” و”احتقار طائفة من الشعب”. ونرى جميعًا أن أردوغان يرتكب هذه الجريمة بشكل متكرر منذ عام ذلك أنه يبحث عن طريق للنجاة من خلال اختلاق أعداء لحزبه كلما واجه مشكلة سياسية عن طريق تكتيك نشاهده كثيرًا في الدول الديكتاتورية.
يعتبر وصف أحد السياسيين لاتهامات الفساد على أنها “انقلاب” نموذجًا كثيرًا ما نصادفه لكن يجب على هذا السياسي أن يشير إلى قوة تستطيع تنفيذ هذا الانقلاب بشكل مقنع بحسب ما تمليه الدعاية. وهذه هي الحكاية المختصرة لتحول إحدى الجماعات المعتبرة والموثوق بها في تركيا إلى “تنظيم انقلابي”. أما الطرف الأكثر جاذبية بالنسبة لذلك الذي يرغب في التستر على جريمته هو عدم وجود عدو كهذا على أرض الواقع.
سيبدأون باصطياد الأشباح ثم تسخير البرلمان وجميع مؤسسات الدولة من أجل “مطاردة الساحرات” وإلصاق الجريمة بالآخرين. لكن هذا لن يستمر كما يخططون له إذ نرى المحكمة “تبرهن” على أنه لايوجد تنظيم كهذا. وفي نهاية المطاف تظهر معضلة كبيرة أمامهم وهو: كيف سيدرجون تنظيمًا غير موجود وفقا لقرار المحكمة في الكتاب الأحمر؟
إن “السّلْم العام” في تركيا يواجه تهديدًا حقيقيًا. ولكن علينا ألا ننسى أن الظلم من امتيازات القويّ وليس من امتيازاتنا نحن.