عبد الله أيماز 5
إن الذين لا يستطيعون اقتحام العقبة وتجاوزها هم أولئك الذين ينساقون خلف أنفسهم ويتساقطون أمام حرّاس العتبة.
فهل يستطيع من يسيرون دائمًا في “الطريق السوي” أن يرتقوا المرتفعات ويصلوا العلا؟ لا أبدًا…
“بقدرِ الكدِّ تكتسبُ المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي
ومن رام العلا من غير كد أضاع العمر في طلب المحال
تروم العز ثم تنام ليلاً يغوص البحر من طلب اللآلي
لماذا ليس لدى الملائكة ترقيات في درجاتهم؟ ذلك أنهم لا تعترضهم عقبات أي لأن النفس والشيطان لايتسلطان عليهم فليس هناك سبب للترقّي أو التدني فدرجاتهم ثابتة لا تتغير.
إن السبب الحقيقي الذي خُلقنا من أجله وأهبطنا في هذه الحياة الدنيا هو الامتحان والابتلاء، كما قال عزّ وجلّ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (الملك: 2).
وبمقتضى هذا الامتحان والابتلاء، رُكّبت في الإنسان قوى شهوانية وغضبية متعددة للغاية بل حتى وُضع في فطرته أحاسيس ومشاعر في حكم المعادن الضارة… وتكون هذه المشاعر وسيلة لارتقاء الإنسان بنفسه في الامتحانات الصعبة وتكون آلية ترتقي بالإنسان إلى عنان السماء كالصواريخ كما يمكنها أن تكون وسيلة لخفض منزلته إلى ما هو أقل من درك الحيوان.
لو نظرنا إلى أول برلمان تشكل في تركيا عقب قيام الجمهورية سنرى أن القاعة كانت مليئة بالمشايخ أصحاب العمائم البيضاء. غير أن العشرة بالمائة من المعارضين غلبوا هذه الفئة التي تشكِّل 90%… فلقد استغلوا شرايين الخوف لديهم وأوقعوا الخلاف فيما بينهم وجعلوا قلوبهم وأفكارهم شتى.
لقد وهب الله الإنسان شعور الخوف لحماية حياته ولولا هذه المشاعر لكان الإنسان قد غامر بحياته في المخاطر غير عابئ بتبعات ذلك الأمر الذي كان سيؤدي إلى القضاء على حياته. لكن الخوف حتى من أشياء تافهة ومجهولة يحول الإنسان إلى ألعوبة في أيدي الأشرار. ذلك أن جميع الظالمين والديكتاتوريين وعصابات المافيا يستغلون شعور الخوف لدى الآخرين لتأسيس ضغط عليهم وتحريكهم كيفما شاءوا.
لقد أثبتت الدراسات العلمية أن أجساد جميع البشر والحيوانات تفرز رائحة معينة وقت الخوف ويطلق على هذه الرائحة “رائحة الخوف”. وهذه الرائحة هي نفسها التي تدفع الحيوانات المتوحشة لافتراس ضحاياها. وكما جاء في مقال نشرته مجلة “سيزينتي” العلمية التركية فقد وضعوا مجموعة من الأسماك العادية في وعاء يشبه حوض السمك فيما وضعوا في حوض آخر بعض الأسماك المفترسة. وفي الوقت الذي كانت تقف فيه الأسماك المفترسة في هدوء بدأت الأسماك العادية تشعر بالخوف. وبعد مدة بدأت الأسماك العادية تفرز رائحة الخوف فما إن شعرت بها الأسماك المفترسة حتى بدأت تغضب وتتحرك بأقصى سرعة يمنة ويسرة.
ويقول الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي في نهاية رسالة المكتوبات في الصف السابع والثلاثين من “بذور الحقيقة” ما يلي: “إنَّ تَحَبُّبَكَ إلى وحشٍ كاسر جائع بالتودد لايستثيرُ عطفَه بل يُهَيِّجُ شَهِيَّته ثم يعود ويطلب منك أجرةَ أنيابِهِ وأظفاره”.
وكذلك الحال بالنسبة للخضوع والخوف أمام الظالمين. أما الذين يقفون رافعي رؤوسهم ويقاومون بعزة وإباء ينقذون أرواحهم على أقل تقدير. أما أبدانهم فتسقط شهيدة مظلومة ليرتقوا بعد ذلك إلى مرتبة الشهداء وتخلد أرواحهم في سجلات التاريخ.
ويسرد القرآن الكريم هذه الآيات في حق المؤمنين الشرفاء الأعزاء ما يلي: “الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ” (آل عمران – 173)
ولهذا، علينا أن ننظر كذلك من هذه الجهة إلى ما نعيشه حاليًا…