بقلم: عمر نور الدين
كان أول تعارف واحتكاك لي عن قرب بحركة الخدمة في عام 2009 في أحد المؤتمرات حيث وجهت الدعوة لوفد كبير من الصحفيين والأكاديميين. وعلى الهامش كانت هناك جولة في مؤسسات هذه الحركة وخاصة الإعلامية منها. زرنا صحيفة” زمان” بمبناها الذي يتميز بخصوصية تصميمه، والذي يحتضن أيضا في جانب منه وكالة أنباء” جيهان” التي كانت معروفة عربيا أكثر من وكالة أنباء الأناضول لأنها كانت أدخلت مبكرا خدمة باللغة العربية.
كما أخذتنا الجولة إلى مجموعة” سامان يولو” وقنواتها التليفزيونية ويومها قلت للمسؤولين فيها متى تطلقون قناة باللغة العربية. وقالوا نتمنى ذلك وسنعمل من أجله. ثم ذهبنا إلى مجلة” حراء” وهي باللغة العربية، وتوجد الآن قناة باللغة العربية تحمل الاسم نفسه (حراء)، ثم ذهبنا إلى مدارس” الفاتح” وجامعة” الفاتح”. وفي المدارس شاهدنا كم الانضباط والهدوء وأدهشنا أسلوبها في التعليم.. وسعدت عندما عرفت أنهم يخططون لافتتاح مدرسة في مصر وأنهم على وشك الانتهاء من تأسيسها. ويومها قال لي أحد من من كانوا يرافقوننا من الأخوة الأتراك أنظر هذه هي المقاعد التي سنرسلها إلى المدرسة في مصر وقد اختبرناها جيدا وهي من نفس نوعية المقاعد الموجودة في كل مدارسنا.
وفي الجامعة رأيت طلابا من جميع جنسيات العالم بلغات مختلفة وألوان بشرة متعددة وديانات مختلفة يدرسون في كلياتها المختلفة. تحدثت مع بعضهم وعبروا جميعا عن شعورهم بالفخر لوجودهم في هذه الجامعة.
كنت قد قرأت عن حركة الخدمة، والتي لم نكن نعرفها كثيرا بهذا الاسم، بل كنا نعرفها باسم جماعة فتح الله كولن، ما استدعى الأمر أن أقرأ عن الرجل، ثم عندما أتيحت لي الفرصة لأن أراهم على الطبيعة وجدت ما أدهشني.
وجدت أناسا شديدي التواضع يعرفون ربهم حق المعرفة ويعرفون تعاليم دينهم بحذافيرها. افتقدت ذلك بشدة في كثير من الأتراك الذين قابلتهم في أماكن مختلفة وفي تركيا نفسها. بل بين من أعرفهم من حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يحسب على الأحزاب الإسلامية. وجدتهم يعملون بجد واجتهاد كخلية نحل. ويبادرون لخدمة أي إنسان ولايشعرونك أبدا بالغربة. كما سبقوا غيرهم في تركيا التي انغلقت ونأت عن المنطقة العربية كثيرا بعد حقبة الدولة العثمانية.
أما أكثر ما لفت انتباهي فهو أننى شاهدت شبابا صغار السن يتولون مواقع ومناصب قيادية مهمة في كثير من مؤسسات ” الخدمة” يتميزون بالثقافة العالية وإجادة العديد من اللغات، وهو أمر افتقدته أيضا في الكثيرين من الأتراك، ولاحظت أن جميعهم يعطون الأهمية الكبرى لقيمة الأخوة الإنسانية بغض النظر عن الفوارق في الدين أو اللغة أو العرق أو اللون. أعجبت بهم لأننى وجدتهم يطبقون الإسلام كسلوك.
ومن يومها زاد إعجابي بالعلامة التركي فتح الله كولن لأن هؤلاء جميعا يستلهمون من فكره القائم على “عالمية الإنسانية”، إن جاز التعبير، وعلى قبول الآخر والتقارب معه لمجرد كونه إنسانا. لأن رجلا خلفت أفكاره مثل هؤلاء الرجال وبهذا القدر من التأهيل والانضباط لابد أن يثير إعجابك بوجدانه وروحانياته وعقله واقتدائه بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل أعماله وتطبيقه روح الإسلام وجوهره (الدين المعاملة).. فكل ما تقوم به حركة الخدمة نابع من هذا المبدأ. واختيار اسم الخدمة أيضا هو اختيار دقيق للغاية. وإيمان هؤلاء الرجال الذين يعملون بدأب شديد في الخدمة مستلهمين فكر الرجل يدفع الانسان للفخر بهم ولأن يتمنى أن يكون مثلهم في تواضعهم وبعدهم عن زخرف الحياة الدنيا وإعلائهم قيمة التواضع والزهد فيما ليس لهم والرضا بالقليل والبعد عن الحرام. زاد إعجابي بهذا الرجل لأن من قرأ أو سمع غير من رأى بعينيه.
كان اليوم يوم جمعة وحان وقت الصلاة. كنا وقتها في صحيفة” زمان” وسألنا أين سنصلي الجمعة؟ فقالوا هنا واصطحبونا إلى مسجد في الطابق الأرضي من مبنى الصحيفة الرائدة التي قرأت عنها أيضا قبل أن أدخل مبناها وعرفت أنها من علامات تركيا وأعلى صحفها توزيعا. وتطبق أيضا مبدأ عالمية الانتشار من خلال مكاتبها في أنحاء الدنيا وصدورها بأكثر من لغة. وتصادف بعد ذلك أن دعيت إلى حفل اطلاق نسختها الانجليزية” تودايز زمان” في أحد الفنادق الكبرى في العاصمة أنقرة.
وفي هذا اليوم لم نلتق رئيس تحرير صحيفة” زمان” بل التقينا الصديق عبد الحميد بيليجي مدير وكالة أنباء جيهان.. رجل بمواصفات كل من يستلهمون فكر العلامة كولن. التواضع، الأخلاق الرفيعة، التأهيل والتعليم الرفيع وإجادة أكثر من لغة، الاطلاع الواسع على مجريات الأمور في العالم. تناولنا معه الغداء. وانتقل بنا الحوار من موضوع إلى آخر ومن بلد إلى آخر. ولم نشعر بالملل بل شعرنا أننا نجلس مع صديق طيب بملامح نبيله يجللها نور الإيمان نعرفه منذ سنين طويلة. ولم ينقل هو لنا أبدا أي إحساس بالضيق أو الانشغال.
في هذا الوقت كنا جميعا نعتنق نظرة واحدة لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا. وكانت صحيفة” زمان” ووكالة جيهان وقنوات سامان يولو من أكثر المتحمسين والمساندين لحزب العدالة والتنمية منذ ظهوره على ساحة السياسة في تركيا وإلى الوقت الذي كنا نجلس معهم فيه. كانوا يؤمنون بأن واجبهم هو دعم هذا الحزب الذي جاء برسالة الديمقراطية وضمان الحقوق والحريات وتبييض الصفحات السوداء التي عاشتها تركيا من قبل وتحقيق التقارب مع العالمين الإسلامي والعربي وتحويل تركيا إلى مركز إشعاع. وكان الحزب فعلا يسير على هذا النهج حتى آخر انتخابات برلمانية في يونيو/ حزيران 2011 والتي من بعدها تضخمت ذاته وانقلب على القيم والمبادئ الديمقراطية وبدأ التحول للاستبداد بسبب ما لحق برئيسه رجب طيب أردوغان من غرور القوة والشعور بعدم وجود منافس ليستبدل الوصاية العسكرية بالاستبداد المدني.
كان بيننا بعض من يدخنون السجائر ومنهم من نفد ما معه من سجائر فبحثنا بين كل من قابلناههم عن سيجارة فلم نجد. لم نجد بين جميع من صادفناهم ، حتى السائقين وعمال المطابع، شخصا يدخن.. ربما يبدو هذا أمرا مثيرا للدهشة لكن هؤلاء الناس تربوا على ذلك وعلى تعاليم الإسلام التي تحرم التدخين.
قفز ذلك الموقف إلى ذهني بعد أكثر من أربع سنوات في نهاية العام 2013 عندما وقعت الواقعة وانفجرت فضائح الفساد والرشوة التي كان الأكبر في تاريخ تركيا، في 17 و25 ديسمبر الماضي والتي اتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ، الذي كان رئيسا للوزراء في ذلك الوقت، حركة الخدمة والأستاذ فتح الله كولن بالوقوف وراء تفجيرها بهدف الانقلاب على حكومته والإطاحة بها. وأطلق على الحركة اسم ” الكيان الموازي” داخل الدولة بعد أن اقتربت منه الفضيحة وعلقت بثوبه وبابنه بلال وبعدد من وزراء حكومته ورجال الأعمال المقربين منه. وأخذ يطلق أوصافا غريبة على أعضاء ومؤيدي حركة الخدمة منها وصف استوقفني كثيرا هو” الحشاشون”.
لم أهتم كثيرا بكل ما قاله عن الكيان الموازي وعن الخيانة والعمالة والتخابر والإرهاب وعن محاولة الانقلاب على الحكومة. لأن عقلية المؤامرة هي التي أصبحت تحكم تركيا وترى كل فعل بسيط أو كبير محاولة انقلاب بداية من المنظمات الانقلابية مثل أرجينيكون التي خرج رجالها من السجن بعد أن ناصبهم أردوغان العداء ووصفهم بالدولة العميقة ليجري تقديمهم للمجتمع بعد ذلك على أنهم أبرياء وأنه كان هناك خطأ في حقهم. أو من تظاهروا في جيزي بارك عام 2013 أو حتى مشجعي فريق بيشكتاش. لكننى توقفت كثيرا أمام وصف الحشاشين وذهلت بل كدت أجن.
كيف يكون هؤلاء الذين عرفتهم وجلست وتحدثت معهم وتجولت بينهم حشاشين ونحن الذين بحثنا عن واحد فقط بينهم يحمل علبة سجائر أو قداحة فلم نجد. نال هؤلاء ما نالهم وهم صامدون صابرون. جرت لهم عملية تصنيف تستهدف تشويه صورتهم والتضييق عليهم في الرزق. وافترق عنهم من كانوا أصدقاءهم بالأمس وتم زرع الشقاق بينهم وبين أخوتهم ممن كانوا يفتخرون بهم وينشدون دعمهم ومساندتهم لهم في كل المواقف قبل أن يتحول حزب العدالة والتنمية إلى حزب يعلى من قيمة الفساد ويدهس القوانين. وقبل أن يتحول أردوغان إلى رجل يغتر بقوته ويرى نفسه رجل تركيا الأوحد ويحاول أن يبني امبراطورية تسمى” تركيا الجديدة” تقوم على الظلم وانعدام القانون ليخلف كل هذا الظلم والتجني شرخا كبيرا في بنية المجتمع التركي.
قرأت حركة الخدمة هذه التحولات في نهج أردوغان وحزب العدالة والتنمية فرفضت أن تقف في صف الاستبداد وبقيت صحيفتها الأبرز” زمان” ورئيس تحريرها أكرم دومانلي، الذي اعتقل واحتجز بتهمة الانضمام إلى تنظيم إرهابي ومجموعة ” سامان يولو” التي سجن مديرها هدايت كاراجا بالتهمة نفسها بلا أي دليل سوى مشهد في حلقة من مسلسل بثته قناة سامان يولو عام 2009 وانتظروا حتى عام 2014 ليقبضوا عليه. بقيت الصحيفة والمجموعة الإعلامية على نهج الحق والدفاع عن الديمقراطية وتعرية الفساد. بقيتا كخط دفاع أخير عن حرية الإعلام في تركيا، ما فجر غضب أردوغان ضدهما.
أكرم دومانلي وهدايت كاراجا هما من هؤلاء الناس الذين يحملون كل المواصفات السابقة التي تحدثت عنها. لم أقابل أيا منهما لكنني واثق من أنهما ممن يحملون قيم الإسلام الصحيح التي ترفض الإرهاب. وأن كل ما فعلاه وغيرهم ممن قبض عليه في الحملة الأمنية المفزعة في 14 ديسمبر/ كانون الأول الماضي التي باتت تعرف في تركيا بحملة” الأحد الأسود” أو” حملة الانقلاب على الديمقراطية وحرية الصحافة” والتي قللت من اعتبار وهيبة تركيا في العالم أجمع أنهم رفضوا الخضوع للاستبداد أو تمرير الفساد وقبوله وشقوا عصا الطاعة وخروجوا على رجل تركيا الأوحد الذي اتضح أن استهدافه لحركة الخدمة لم يكن وليد الأحداث الأخيرة في تركيا بل إن خطة الانقلاب على الحركة التي دعمت حزبه خلال فترتين انتخابيتين من 2002 إلى 2010 بدأت عام 2004 .
لاشك في أن رجالا يحملون هذه المواصفات لابد أن يحقد عليهم غيرهم. ولاشك في أن هناك فرقا بين المسلمين والمتأسلمين. فالمسلمون هم من يحملون قيم الإسلام الصحيح السمح التي ينادي بها كولن والمتأسلمون هم المسؤولون عن حالة الهلع في الغرب من الإسلام وعن نشوء ظاهرة الإسلاموفوبيا.، وهم الذين يتسترون بالدين لكنهم يأتون كل ما نهى عنه من سرقة ورشوة وفساد وظلم واتهام للناس بالباطل وأكل حقوقهم واستعداء الناس على إخوانهم وينسون أن المسلم هو من سلم المسلمون من لسانه ويده ..
من الطبيعي لمن تنكروا بالأمس لأستاذهم نجم الدين أربكان وأبقوا عليه في السجن ثم أخرجوه لسوء حالته الصحية لكنهم فرضوا عليه الإقامة الجبرية حتى وفاته أن يتنكروا اليوم للمفكر الإسلامي فتح الله كولن بسبب الحقد عليه وعلى المنتمين لفكره، لأنهم لايرون غير أنفسهم، ولايرون حتى بلادهم ويقللون من اعتبارها في العالم كله بكبت الحريات وتكريس الاستبداد وقتل الديمقراطية.
أليس من الطبيعي أن يلجأ هؤلاء إلى كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة في حربهم من أجل السلطة؟ هل سيتورعون عن ترويج الأكاذيب والافتراءات ومحاولات تشويه غيرهم حتى وإن قالوا عن أناس مثل الذين تحدثت عنهم إنهم حشاشون؟ .. فياليتكم كنتم مثل هؤلاء الحشاشين.