علي بولاج
يوجد في القرآن الكريم آيتان تنيران دربنا بشأن قضايا الفساد والرشوة: إحداهما الآية 188 من سورة البقرة والثانية الآية 42 من سورة المائدة. ولنتناول اليوم الآية الأولى:
“وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ” (البقرة – 188).
إن أصل كلمة “الباطل” يعني الشيئ ضعيف المقاومة الفارغ الزائل الفاني. أما كلمة “الإدلاء” فتطلق على فعل إنزال الدلو في البئر. كما أطلق البعض على الرشوة الدلو أو الحبل الذي تقضى به الحوائج انطلاقاً من أنه كما أن رفع الماء من البئر بالدلو سهل كذلك فإن الأعمال الصعبة يسهل إنجازها بفضل الرشاوى.
لاشك في أن تناول هذا الموضوع ضمن الآيات التي تشرح أحكام الصيام من سورة البقرة أمر ذو مغزى عميق. ففي الوقت الذي لايأكل فيه المسلم الطعام الذي اكتسبه بالمال الحلال وبالطرق المشروعة وهو صائم فكيف له أن يفكر في أكل أموال اكتسبت بطرق غير شرعية أو حتى حقوق الآخرين وثرواتهم؟!
إن الأموال والخدمات متداولة في الحياة الاجتماعية. ويعتبر التداول المستمر للأموال والخدمات بين الناس أحد أهم أسباب الثراء. وليست التجارة سوى تبادل للأموال وأماكنها بين الناس. غير أن هذه العملية يجب أن تعتمد على أساس محدد وإطار مشروع. فمَن يأخذ البضاعة من مكان وينقلها إلى مكان آخر يؤدي خدمة مهمة بين المنتج والمستهلك. وبالتالي فمن الطبيعي أن يضيف هذا الناقل مبلغًا من المال كربح على سعر البضاعة. كما أن دفع أجر مقابل هذه الخدمة أو تلك أمر ضروري لتكون مقابل الجهد المبذول والفائدة التي تحققت. وتعتبر الرشوة إحدى الطرق غير الشرعية لهذه العملية أو عملية نقل الأموال بطريقة مخالفة للشرع كما ترد في الآية.
إن عملية نقل البضائع من خلال “طرق باطلة” تعتبر كسبًا غير مستحق. وهناك أنواع من هذا الكسب كالسرقة، الابتزاز، الفساد، التجاوزات، الرشوة، الاختلاس، الربا، القمار، السوق السوداء، إساءة استخدام السلطة، الغش، الخداع، الواسطة، المحاباة وخيانة الأمانة وما إلى ذلك.
أما عبارة “وتدلوا بها إلى الحكام” فتعني الحصول على كسب غير مشروع من خلال تدخل أصحاب المناصب والسلطة. ويمكن أن يحدث ذلك بطريقتين: إحداهما تقديم رشاوى إلى المسؤولين من أجل مصادرة أموال الآخرين أو نهب المصادر العامة للدولة. وثانيهما تقديم مال أو متاع أو بضاعة إلى المسؤولين لتسهيل عملية الحصول على خدمة ما. ومنْع الشخص من أن يدلي بالمال إلى الحكام يعني من وجهٍ دفاعه عن الحق القانوني الذي يمتلكه ومكافحته ممارسات الرشوة إن أصبحت وسيلة لإدارة الأمور. لكن ليس هناك أدنى ريب في أن الدلالة الواضحة للآية المذكورة هي تحريم استغلال القوانين والقضاء لصالح شخص دون وجه حق وتقديم رشاوى إلى الحكام في سبيل تحقيق هذا الغرض.
إن سوء استغلال المحاكم أو القوانين أو الحكام يعني أن الأمور تسير وفق القانون من الناحية الشكلية فقط. لكن ذلك لايعني أن النتائج المترتبة على ذلك كانت وفق روح القانون وتحقّق به العدل أي حصل صاحب الحق على ما يستحق. وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي (وكذلك الوسيط بينهما) في الحكم والإدارة. (الترمذي، الأحكام 9، المسند، المجلد الخامس / 279).
وإذا كان يجب علينا أن نفهم من كلمة “الحُكام”، بمعنى أعم وأشمل السلطةَ العامة صاحبة القرار فإن حصول أصحاب القوة والسلطة على هدايا يدخل في إطار الآية بسبب مناصبهم وصلاحياتهم. ذلك أن أحدًا لاتأتيه الهدايا وهو يجلس في بيته. وكان الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام قد غضب غضبًا شديدًا عندما قبِل الصحابي ابن اللتبية هدايا منحت له بينما كان مكلفًا من قبل النبي صلى الله عليه وسلم بتحصيل أموال الزكاة. وقال عليه الصلاة والسلام: “فهلاَّ جلَس في بيت أبيه وأُمِّه فيَنظر أيُهْدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لايأتي بشيئ إلاَّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرًا له رُغاء أو بقرة لها خُوار أو شاة تَيْعَر”.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال وفق رواية أبي أمامة ما يلي: “من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الكبائر”.