عبد الحميد بيليجي
كنت قد عبرت عن سذاجة الذين دافعوا عن إغلاق حزب العدالة والتنمية الذي تسلم السلطة بأصوات الشعب عندما رُفعت ضده قضية لإغلاقه من طرف كيان الوصاية بنكتة فكاهية مشهورة:
كان زيد يمشي بسيارته في الاتجاه المعاكس في أحد الطرق السريعة والمكتظة بالسيارات، فبدأت شرطة المرور تنادي: “انتباه، انتباه، هناك سيارة تسير في الاتجاه المعاكس على الطريق السريع”. لكن زيدا كان واثقا بأنه يسير في الاتجاه الصحيح فقال في نفسه لما سمع نداء الشرطة: “من قال إنها سيارة واحدة..جميع السيارات تسير في الاتجاه المعاكس”.
وللأسف فإن النكتة نفسها تنطبق اليوم على “الكيان الأوليغاركي الضيق” المقرب من أردوغان، والذي يظن نفسه صاحب صلاحية في كل شيئ بدءًا من تحديد النسل وصولا إلى سجن الصحفيين كما يشاء ويتهم كل من يبدي ولو انتقادا بسيطا ضده بالخيانة الوطنية. وهذا الكيان الضيق هو الذي يجر أردوغان وحزب العدالة والتنمية إلى طريق الانتحار. لأن محاولة تغيير بنية المجتمع والإعلام باستخدام قوة الدولة ومحاولة اختلاق أعداء داخليين والتدخل فيما ينبغي أن يكتبه الصحفيون وما لا ينبغي عليهم كتابته وحماية اللصوص وسجن من قبضوا على اللصوص والتصالح مع التنظيم الإرهابي واتهام من يحاربون الإرهاب بأنهم إرهابيون وتصنيف الجميع دون تمييز بين الرسميين والمدنيين ومحاولة تنظيم هيكلة الأحزاب السياسية وإصدار قوانين مخالفة للدستور رغم العلم بذلك؛ كل ذلك لا فرق بينه وبين تصرف زيد في النكتة المذكورة أعلاه كما سيفهمه أي واحد يتمتع بقدر متوسط من الذكاء. ولا أجد ما أقول للذين لم يفهموا بعدُ أن الدولة خرجت عن مسار الديمقراطية والقانون ومازالوا يظنون أن المشكلة هي صراع بين حزب العدالة والتنمية وحركة الخدمة. ويكفي لفهم ذلك ذكر معاناة الذين نطقوا بالحقائق رغم أنهم ليست لهم أية صلة أو علاقة تربطهم بحركة الخدمة.
كان رئيس جمعية الصناعيين ورجال الأعمال “توسياد” محرم يلماز قبل مدة قد نبه أردوغان الذي يسير في الاتجاه المعاكس بأسلوب لبق فقال: “لا يمكن مجيئ رؤوس الأموال الأجنبية إلى بلد لا تُراعى فيه سيادة القانون ولا يتم فيه التزام القضاء بمعايير الاتحاد الأوروبي ويُحدُّ فيه من استقلالية المؤسسات الاقتصادية ويمارس فيه الضغط على الشركات من خلال الضرائب والغرامات المالية وغيرها من العقوبات ويتغير فيه قانون المناقصات عشرات المرات”.
تذكروا جواب أردوغان حينها: “لا يحق لرئيس جمعية الصناعيين ورجال الأعمال أن يقول لا يمكن مجيئ رؤوس الأموال العالمية إلى بلدنا فهذه خيانة للوطن”. فقد كان قول أحد رجال الأعمال: “يتعرض الاقتصاد لأضرار كبيرة إذا غابت دولة القانون” كافيا لوصمه بالخيانة الوطنية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تهجمت عليه وسائل الإعلام الموالية للحكومة واضطر للاستقالة من منصبه حتى لا يخسر أكثر في أعماله التجارية.وأصبح هذا المنصب (رئاسة توسياد) كالقميص الناري وبعد مصاعب تسلم منصب الرئاسة خلوق دينتشر من شركة “صابانجي القابضة”. وكان هو الآخر بدوره ممن وصف المسؤولين بأنهم “يسيرون في الاتجاه المعاكس” في الحوار الذي أجرته معه جريدة” حريت” إذ قال:
“لم تكن عمليات 17 ديسمبر/كانون الأول 2013 (تحقيقات أعمال الفساد والرشوة المتورطة فيها الحكومة) مفاجأة لعالم الأعمال. فقد تراجعت الدولة 11 درجة في مقياس الشفافية. وأجرينا استطلاعا على 800 من رجال الأعمال بمختلف المجالات، حيث يرى 37% منهم وجود فساد كبير في القطاع الذي يعملون فيه كما يرى 46% منهم أن الفساد في ازدياد مستمر”.
وقال ” ولم تكن احتجاجات حديقة جزي انقلابا كما يُدَّعى، بل كانت رد فعل على التصرفات الديكتاتورية. وإن انضم إليهم بعض الانقلابيين فيما بعد والبحث في ذلك هو من مهمة القضاء”.
وأيضا قال: “إن مخاطبنا في الدولة ليس هو رئيس الجمهورية بل رئيس الوزراء، فعالم الأعمال المنقاد من طرف الدولة لا يناسب ولا يواكب هذا العصر. ولا يمكن شرح ذلك للغرب ولا يمكن أن يتخلى الاتحاد الأوروبي عن تركيا بسبب أقوال أردوغان”.
وأضاف: “هل حركة الخدمة تنظيم إجرامي”؟ “أولا الجريمة أمر شخصي هذا مبدأ أساسي في القانون الجنائي فلو أن عدة أشخاص ارتكبوا جريمة ما أو حتى لو كان زعيم حركة أو جماعة ارتكب جريمة لايعني ذلك أن تلك الجماعة جماعة إجرامية”.
وزاد: “وهل يمكن أن يكون فتح الله كولن زعيما لتنظيم إرهابي”؟ “هذا ليس من شأني”. “فالكل بريء طبعا حتى يثبت على أحد أنه ارتكب جريمة ما حسب المبدأ القانوني” “المتهم بريء حتى تثبت إدانته”.
كما قال: “وقد اعتقل مدير مجموعة سامان يولو الإعلامية ورئيس تحرير جريد “زمان” بسبب مسلسل تم عرضه سنة 2009 وسجن أحدهما وأطلق سراح الآخر ولم نفهم إلى الآن ما علاقة ذلك بوجود دولة موازية. من الممكن أن تكون هناك مشاحنة بين جماعتين ولكنني لا أرى أن هناك دولة موازية”.
وفي أية لحظة قد يوصف خلوق دينتشر أيضا بالخيانة مثل سلفه محرم يلماز. ولكن لا معنى للخوف من الاتهام بالخيانة أو بعضوية الكيان الموازي في وسط يوجد فيه أساتذة جامعيون متخصصون في العلوم الدينية يقولون: “لا يمكن وصف الفساد بأنه سرقة”.
ولاتنسوا ما قاله السياسي الأوروبي المعروف ب “داني الأحمر “Danny the Red” Daniel Cohn-Bendit دانيال كون بينديت، الذي كان أكبر الداعمين لأردوغان في أيامه الصعبة: “لستم ديمقراطيين إذا لم يصفكم أردوغان بالخيانة في هذه الأيام”.