إسطنبول (زمان عربي) – أخذت الحكومة منذ مطلع عام 2014 تشن حملات الدعاية السوداء الممنهجة على جمعية “كيمسا يوكمو” (هل من مغيث) الخيرية التي تقدم مساعدات لآلاف الناس في جميع أنحاء العالم بما فيها تركيا. حيث صدرت صحيفة “صباح” الموالية للحكومة بخبر في صفحتها
الأولى تحت عنوان “جمعية هل من مغيث لا وجود لها في مخيمات الصومال” في 10 فبراير/ شباط 2014. وزعمت في الخبر أنه لم يتم توزيع صاع من الطعام إطلاقا في مخيم الجمعية الموجود بالصومال.
وعلى الرغم من التكذيب الرسمي الصادر عن الجمعية التي قدمت دعما لهذه الدولة الفقيرة بأكثر من 58 مليون ليرة لمضمون هذا الخبر تماماً بالأدلة والوثائق المبرهنة ورفعها دعوى قضائية إلا أن صحيفتي “صباح” و”تقويم” لم تتراجعا عن نشر أخبار مشابهة من حين لآخر.
وتبع نشر هذا الخبر صدور قرار عن مجلس الوزراء بإلغاء تراخيص جمعية “كيمسا يوكمو” لجمع المساعدات دون الحصول على إذن. ثم ظلّ مفتشو وزارة الداخلية يراقبون أنشطة الجمعية والتفتّش على أنشطتها على مدى شهرين، قدَّموا بعد ذلك تقريراً قالوا فيه ” نرى من المناسب مواصلة الجمعية أنشطتها من أجل الصالح العام”.
وكان بولنت آرينتش المتحدث الرسمي باسم الحكومة ونائب رئيس الوزراء أعلن أن مجلس الوزراء لم يوقّع على أي قرار بشأن سحب تراخيص جمع المساعدات من الجمعية مع أنه ظهر بعد صدور القرار فعلاً أنه من ضمن الوزراء الموقّعين على القرار. ثم أصدر مجلس الدولة مؤخراً قراراً بإيقاف تنفيذ قرار مجلس الوزراء المذكور.
تركيا تخسر عام 2014 من أجل التستر على الفساد
على الرغم من أن حكومة حزب العدالة والتنمية استهلت مشوارها في الحكم قبل أكثر من 12 عاما بشعاراتِ وأهدافِ رفْع تركيا لتصبح ضمن أكبر عشر قوى اقتصادية في العالم والحصول على العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي والقضاء على الفجوة بين
الأغنياء والفقراء وعقد صداقات مع كل الدول المجاورة إلا أنها باتت اليوم تفعل عكس هذه الأهداف تماماً.
فالاقتصاد التركي بدأ يتدهور بسرعة كبيرة وصارت تركيا وحيدة معزولة بحيث كاد لايبقى في المنطقة والعالم أية دولة صديقة لها. كما زاد بإيقاع سريع عدد الفئات التي أصبحت غنية بفضل حزب العدالة والتنمية. بينما نرى أن الفقراء ما زادوا شيئاً سوى ازدياد فقرهم.
حسنًا، ماذا حدث حتى بدأت تركيا تشهد هذا التراجع في كل المجالات؟ ولماذ بدأت تُذكر بأخبار الفساد والرشوة وقمع الإعلام وانعدام القانون بعد أن كانت تبدو نجمًا متلألئاً ونموذجًا لدول الشرق الأوسط حتى الأمس القريب؟
هناك سبب واحد لكل ما حدث: هو محاولة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنقاذ نفسه وأفراد عائلته بعد ضبطهم وهم متلبسون بجريمة الفساد. وبينما يحاول أن ينقذ نفسه من هذه الورطة يلجأ إلى توظيف “آلية الكذب والافتراء” الأكثر استخداماً في منطقة الشرق الأوسط.
إن الكذب هو إحدى أدوات الإدارة والحكم. فهو أداة تُستخدم كثيراً عند الرغبة في التخلّص من المساءلة والرقابة. فاللجوء إلى الأكاذيب ونشرها في المجتمع يزداد بالتناسب مع كونها شرطاً أساسياً لا غنى عنه لمواصلة الحكم. ولذك فإن لجوء السلطات السياسية إلى الأكاذيب هو النتيجة الطبيعية لسياساتها المعادية للديمقراطية والقانون.
واللافت أنه كما لعبت الأكاذيب والافتراءات دوراً حاسماً في منع احتجاجات حديقة “جيزي” بميدان تقسيم في إسطنبول 2013 كذلك كانت العنصر الأساسي لإفشال تحقيقات أعمال الفساد التي بدأت في 17 ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
ويرسم كتاب “كتلة أكاذيب” لمؤلفه ديفيد إجناتيوس أحد أشهر الصحفيين في جريدة” واشنطن بوست”، والذي تحول لاحقا إلى فيلم سينمائي مشهور، كيف تتحوّل الأكاذيب إلى أداة من أدوات الإدارة والحكم للمخابرات في أنظمة الشرق الأوسط التي يحكمها رجل واحد.
مع أن هذا الكتاب يسلط الأضواء على الأكاذيب الغربية إلا أن مفهوم “كتلة أكاذيب” أعاد إلى أذهاننا كيفية استخدام الكذب كشكل من أشكال إدارات الأنظمة القمعية. ذلك أن لنا كذلك تاريخا سياسيا مبنيا على كتلة أكاذيب. وإذا ألقينا نظرة سريعة على تاريخنا السياسي نرى أن ترويج الأكاذيب الرسمية المصنعة في مراكز الدولة يشهد زخماً كبيراً بالتناسب مع حدوث الانقلابات العسكرية وفترات الحزب الواحد.
وبمجرّد الاطلاع على الأكاذيب التي تنشرها السلطة السياسية الحاكمة في تركيا منذ عام 2013، يمكن لنا تحديد ورسم صورة توجهها أو رؤيتها التي تعتمدها في إدارة البلاد استناداً إلى تلك الأكاذيب.
أما تكميم الأفواه وإسكات الإعلام المستقل والحرّ أو استخدام الإعلام الموالي كأداة لتنفيذ حملات دعائية يعتبر شيئاً لا يمكن الاستغناء عنه لآلية الكذب هذه.